فلا غالب لكم . فرجع ذلك المغربي وهو يقول: من عاش ينظر إلى هذا الملك وهو يؤخذ بهذه البندقية، وقد كان كذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» (ص58-59).
والغريب أنه حتى بعد ثلاثة قرون من انتصار البندقية والمدفع ظل المماليك على عدائهم للحرب بالنار، وكانت النتيجة مثلما يقول الأستاذ حسن جلال في كتابه حياة نابليون أن مدافع الفرنسيين حصدت المماليك حصدا في موقعة الأهرام رغم استخدامهم الأسلحة النارية. ويفسر ذلك المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعي قائلا: إن المماليك لم يكونوا يستخدمون الأسلحة النارية عن اقتناع، بل كانوا يعتمدون على السيف والرماح والنبال، وكان من بينهم من يشيع فيهم الإحساس بالذنب العظيم للرامي بالنار.
ولقد سقت هذا المثل لأدلل على معنى الخلط المنهجي الذي ينبع من اختلاط صور الماضي بالحاضر واختلاط القيم النابعة من التراث دون إدراك للتغيير الذي لا بد أن يحدث؛ فهو محتوم ولا مهرب منه. وإذا كنا قد عدلنا من مفهومنا للقوة فإننا لا نزال ندهش عندما نجد في هذا العالم الواسع أمما تزعم لنفسها التقدم بينما تمارس منطق القوة والبطش، وتمارس التسلط والتحكم والقهر، بينما تقول كلاما لا يشي بهذا، ونحن ندهش لأننا رضعنا في طفولتنا قيما مغايرة من التراث، وفي أعماق كل عربي منهل إيمان بالخير لا ينضب؛ فهو لا يستطيع التوفيق بين ما درج عليه وبين ما يراه حوله، ويبدو أن هذا قدرنا الذي لا فكاك منه!
المرأة في الأدب
ورثنا فيما ورثنا من الأسلاف صورا منوعة للمرأة، تدور جميعا حول جمالها والمعاناة في الوصول إليها، وقد أدى هذا وذاك إلى تقاليد الغزل والنسيب، ودرجنا نجرع الشعر الذي يتغنى بحسن المرأة ويشكو آلام الفراق، بينما اختلف العالم اختلافا نزع «هالة ضوء القمر» - كما يقول أحد نقاد الغرب - من حول المرأة، وأبدلها ضوء النهار العادي، بعد أن خرجت إلى العمل وشاركت الرجل حياته في الحقل والمصنع، والمدرسة والمستشفى! والمرأة التي يقدمها التراث إلينا مخلوق صامت، جمع إلى حسنه سحرا وغموضا وبعدا عن عالم الناس، فأما الصمت فمصدره أمران: أولهما عدم الحاجة إلى الكلام؛ لأن الكلام جهد لا غناء فيه من جانب كائن لا يتوقع أحد أن يفيض فمه بلآلئ الحكمة، وثانيهما لأن الصمت يساهم في جو الغموض الذي يفترضه المجتمع في المرأة. ولذلك فنحن لا نسمع المرأة في الأدب العربي القديم إلا حين تتقدم في السن ويزول خطر الغموض؛ فأصوات النساء في هذا الأدب خافتة بعيدة واهنة، ولا علاقة لها بأصواتهن التي تملأ علينا حياتنا الواقعية ليلا ونهارا!
وصورة المرأة في الأدب العربي منذ الجاهلية حتى فجر النهضة الحديثة صورة جسدية، لا أجد أقدر على إيصالها من وصف يوم ذي قار الذي ورد في تاريخ الطبري (الجزء الثاني، ص148)، ووردت الأشعار والأخبار المتصلة به في الأغاني للأصفهاني (ج2، ص97) والعقد الفريد لابن عبد ربه (ج3، ص374)، ومعجم البلدان لياقوت (ج3، ص352)؛ ففي مختلف الروايات عن هذا اليوم تبرز قضية وصف المرأة المثالية وهي تبرز في سياق أصل الخلاف بين كسرى أنوشروان ملك الفرس والنعمان بن المنذر ملك الحيرة في الجاهلية، وذلك حين رفض النعمان إهداء جارية إلى كسرى بالأوصاف التالي ذكرها: ... جارية معتدلة الخلق، نقية اللون والثغر، بيضاء قمراء، وطفاء كحلاء، دعجاء حوراء، عيناء، قنواء، شماء برجاء زجاء ، أسيلة الخد، شهية المقبل، جثلة الشعر، عظيمة الهامة، بعيدة مهوى القرط، عيطاء، عريضة الصدر، كاعب الثدي، ضخمة مشاش المنكب والعضد، حسنة المعصم، لطيف الكف، سبطة البنان، ضامرة البطن، خميصة الخصر، غرنى الوشاح، رداح الأقبال، رابية الكفل، لفاء الفخذين، ريا الروادف، ضخمة الماكمتين، مفعمة الساق، مشبعة الخلخال، لطيفة الكعب والقدم، قطوف المشي، مكسال الضحى، بضة المتجرد، سموعا للسيد، ليست بخنساء ولا سفعاء، رقيقة الأنف، عزيزة النفر، لم تقذ في توس، حيية رزينة، حليمة ركينة، كريمة الخال، تقتصر على نسب أبيها دون فصيلتها، وتستغني بفصيلتها دون جماع قبيلتها، قد أحكمتها الأمور في الأدب، فرأيها رأي أهل الشرف، وعملها عمل أهل الحاجة، صناع الكفين، قطيعة اللسان، رهوة الصوت ساكنته، تزين الولي، وتشين العدو ...
وقد حذفت بعض العبارات التي نعتبرها اليوم خارجة، وفيما عدا ذلك أوردت النص كاملا كي أدلل على موقفنا التراثي من المرأة؛ فما شأن هذه الجارية (أي الفتاة) التي طلبها كسرى ورفض تقديمها النعمان؟ إنها صورة المرأة المثالية كما ذكرت، ويستطيع القارئ أن يحصي أكثر من أربعين وصفا حسيا جسديا لها، تتلوها بضعة أوصاف لأخلاقها تدور حول الطاعة والخفر والحياء والجنوح إلى الصمت!
وقد اتبع الشعراء هذه الملامح لصورة المرأة في غزلهم ونسيبهم وتشبيبهم بلا استثناء تقريبا، بحيث يستعصي على من يقرأ أدبنا الذي ورثناه أن يرسم صورة صادقة للحياة النفسية للمرأة على مدى تاريخنا الطويل، والأخبار المتناثرة هنا وهناك في كتب التاريخ الأدبي لا تكاد تفصح عن كائن حي متميز، فحياتها الباطنة سر، وهي حتى إذا شاركت الشعراء والأدباء شعرهم وأدبهم حاكتهم وقالت قولهم! فكذلك فعلت الخنساء في رثاء أخيها، وكذلك فعلت عائشة التيمورية حين تصدت للغزل! وليأذن لي القارئ أن أسوق إليه أبياتا من الشعر وأطلب منه أن يحدس قائلها:
أبيت ومؤنسي الخفاش ليلا
وحالي فيه شر الحالتين
Неизвестная страница