كنت أحس دائما أن كتابات نهاد جاد تنبئ عن صورة ذات تحاول أن تحافظ عليها وأن تحفظها من التغير؛ فهي الطفلة الوحيدة التي نشأت في كنف الكتب، تسبح في عالم أحلامها وخيالاتها، لا تمسك برواية إلا استغرقتها، ولا يقع في يدها كتاب إلا استغرقته، ثم نسيته كأنما لتفسح المكان لكتاب آخر، وكأنما كانت الأفكار تتصارع في باطنها؛ محاولة تغيير صورة الطفلة القارئة الكاتبة، وكأنما كانت تدفعها بعيدا عنها لتزيح عالم التجربة عن عالم البراءة الأولى، وكانت أفضل لحظاتها هي التي تقضيها وحيدة ساهمة شاردة لا يدري أقرب المقربين إليها ما يدور في نفسها.
كنا نقضي الصيف معا في لندن حتى عام 1975م عندما عدت إلى مصر ولكن حياتنا كانت استمرارا لرحلة الغربة؛ إذ كانت قد عادت هي الأخرى من رحلة عمل في جدة أستاذة للدراما والشعر الإنجليزي في جامعة الملك عبد العزيز، مع سمير سرحان ونهاد صليحة التي عادت من إنجلترا لتلحق بهما هناك.
وأذكر أننا عندما التقينا لأول مرة في القاهرة في صيف 1975م، كان معنا الروائي المبدع محمد جلال، وكنا نجلس على شاطئ النيل هذه المرة وكان موضوع حديثنا هو الزمن أيضا! وفي اليوم التالي زرناها جميعا في غرفة ميلاد طفل جديد هو خالد ابنها، وهناك مكثنا هنيهة نتجاذب أطراف الحديث ونرسم خططا لرحلة جديدة، فلم تكن نهاد جاد ترى الزمن إلا حركة في المكان، وكانت دائما تقول لي إن نشأتها (وبالتحديد تنقلها بين البلاد مع والدها الذي كان لواء في الشرطة ) تفرض عليها ذلك النزوع نحو التنقل.
ولا شك لدي أن الدارس لأدب نهاد جاد سوف يجد هذا النزوع نحو تحديد صورة الذات في الزمن، الصورة التي تتغير بما يشبه الحتم والحسم، وهو نزوع مأسوي رغم قالب الكوميديا الذي كانت تفضله، فبطلاتها يجسدن صورا لهذا النزوع الذي يأخذ شكل الصراع الدرامي؛ عزيزة وفردوس وعديلة، وأخيرا صفية بطلة «ع الرصيف»، التي تصل من رحلتها في الكويت إلى مصر لتتساءل من أنا؟ وماذا حدث لصورة ذاتي أو لذاتي؟ وكانت تحب أن أحدثها أنا عن رشيد - بلدي الأول - وعن والدي، وعن صورنا لذاتنا التي تتغير في رحلة الحياة.
والآن أجدني واقفا على الشاطئ وحيدا أرقب السفينة التي حملت نهاد جاد في رحلة جديدة بعيدة، فلا أستطيع أن أحدد صورتها في الزمن؛ هل هي الطالبة الحالمة التي كانت تكتب الشعر عام 1961م، أم هي الصحفية التي تؤمن بالجيل الجديد وتفتح لهم قلبها وصفحات مجلتها «صباح الخير»، أم الصديقة والأخت العطوف التي كنت أشكو إليها بثي وحزني، أم الناقدة ذات الحساسية الصادقة التي كنت أقرأ لها مسرحياتي وترجماتي، أم هي الكاتبة المسرحية التي أسعدت الآلاف بجرأتها وسخريتها من كل شيء؟ إن صور نهاد جاد التي تشكلت في نفسي كثيرة، ولكنها تجتمع في تلك النظرة الحيرى المطمئنة - في نفس الوقت - في عينيها؛ فقد كانت تعرف معنى رحلة الحياة الوجيزة ومعنى رحلة الأبد المديدة، وكأني بها تناديني من سفينتها، وكأني أسمع رنين كلماتها وهي تعلق تعليقات موجزة على هذا الأمر أو ذاك، كأنما هي مشاهد عابرة تمر بها أثناء الرحلة؛ مشاهد الطريق التي ما تفتأ تتغير.
لقد رحلت نهاد جاد عن هذا العالم وتركتنا، فمتى تصل سفينة الشمس إلى المرفأ، ومتى يحين رحيلنا حتى نصل إلى ذلك الشط البعيد؟
معنى عبد الوهاب
عدت من الكتاب ذات يوم في مطلع الأربعينيات لأجد في المنزل جوا من الترقب واللهفة لم أكن أعهده، وعلى صغر سني أدركت أن شيئا ما يوشك أن يحدث - وكان بلا شك شيئا غير عادي في حياة بلدتنا رشيد. كنت قد اعتدت من الكبار حديثهم المعاد عن الحرب وأخبار الحلفاء والمحور، وكان منزلنا قد استضاف عددا من أفراد الأسرة المقيمين في الإسكندرية والقاهرة ممن فزعوا إلى رشيد؛ احتماء من غارات الألمان، وكنت قد اعتدت أحاديثهم أيضا وألفت مناسبات إثارتهم، ولكن جو الترقب الذي ساد المنزل ذلك اليوم كان بالتأكيد غير عادي!
ولم أسترح حتى عرفت أن المغني الذي كان قد «أحيا فرح» عمي سوف يحضر إلى رشيد ضيفا على أحد أبناء البلدة من هواة الطرب، وأنه ربما «أحيا حفلة كبرى، مثل حفلات الشيخ مصطفى إسماعيل التي تسهر معها البلد حتى الساعات الأولى من الصباح». وارتقابا لليوم الموعود كان كل أهل الدار يحاول أن يحدس أي أغنية أو أية أغان سيغنيها عبد الوهاب، وكان ثم إجماع على طلب الأغنية التي غناها في ذلك الفرح وهي «بالليل يا روحي أرتل بالأنين اسمك»، وانتظارا لليوم الموعود أيضا جعل كل من يأنس في نفسه القدرة على محاكاة عبد الوهاب يتغنى بها، هي الأغنية الأخرى (ابنة الثلاثينيات أيضا) «إمتى الزمان يسمح».
والغريب أنني لا أذكر عن الحفلة نفسها شيئا؛ إذ فرض علينا أن نأوي مبكرا إلى الفراش، ولكن سنوات الحرب سادتها ألحان عبد الوهاب، وكان والدي يتغنى بها ليل نهار، كما كنا نقوم برحلات خاصة إلى الإسكندرية لنشاهد أفلام عبد الوهاب ونحفظ أغانيه، وكان يصحح بعضنا للبعض إذ لم نكن نملك إلا جهاز المذياع الوليد، و«جراموفونا» عتيقا تصحبه عدة أسطوانات تنتمي لجدي الحاج أحمد بدر الدين، وهي لمطربي القرن التاسع عشر ومطلع العشرين - أذكر منهم منيرة المهدية وعبد الحي حلمي.
Неизвестная страница