وفي جامعة نيويورك كان الاستقبال حافلا بفضل الإعداد الذي تولته الدكتورة منى نجيب ميخائيل - ولكن السؤال الذي لم يكن منه مهرب هو أيضا لماذا لم تقدم الشعر حتى الآن كما ينبغي - وتكررت القصة في لوس أنجيليس في جامعة كاليفورنيا؛ حيث احتفت بنا الدكتورة عفاف لطفي السيد أيما احتفاء. ولم يفلح التشاؤم الذي كان ملازما للدكتور لويس عوض في الإقلال من بهجة استمتاع الجمهور بالشعر والمناقشات الساخنة التي شاركت فيها الدكتورة سهير القلماوي مشاركة فعالة.
وعند عودتنا إلى مصر كنا قد عقدنا العزم (سمير سرحان وأنا) على أن نفعل شيئا؛ كنا قد فرغنا لتونا من الاشتراك في عمل ما، وكان ما يزال أمامنا عمل كثير! ونشرت بعض المجلات الأمريكية نماذج من شعرنا، فتحمس الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة لتقديم المجموعة التي تكونت لدي بالإنجليزية لنشرها عن طريق لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة، وكنت آنذاك عضوا بلجنة الترجمة، ولكن المشروع تعثر لأسباب لا مجال للخوض فيها، خاصة أن الكتاب على وشك الصدور من الهيئة العامة للكتاب (وبه خمسون قصيدة لثمانية عشر شاعرا) كان صلاح عبد الصبور قد رحل عن عالمنا، وكان أمامنا أن نختار بأنفسنا الشعر الذي يعيش في وجدان الناس. وعكفت على تأمل التراث القريب للشعر العربي، وقد كنت هضمت الكثير منه في ميعة الصبا، وجعلت أفكر ما عساي أفعل بالتراث الخصب الذي خلفته الحركة الرومانسية التي نطلق عليها حركة الإحياء أو البعث - وعادة ما تعتبرها كلاسيكية؛ لأنها ترتدي ثياب التقليد والتقاليد - وجعلت أبحث جنبات الدواوين عن شيء «ذي صلة» بحياة الناس اليوم، بمشاعرهم وأفكارهم اليوم، فوجدت ما حيرني وأقض مضجعي.
إن شعراء الإحياء (بما أحرزوه من إحياء) كانوا يحيلون القارئ العربي في هذا العصر إلى زمن بعيد؛ زمن يصعب بعثه إلا إذا تغير وجه الحياة برمتها في عالم اليوم، وأنا لا أقصد الجمال والخيام هنا؛ فقد توجد هذه مع إنسان هذا العصر، ولكنني أقصد النضج الذهني والوجداني الذي حققه ابن هذا القرن في وطننا العربي على امتداد ساحته، (مهما قيل عن التفاوت هنا وهناك بين مراحل هذا النضج) ولأضرب مثلا لهذا بقصيدة «الفخر».
كان الفخر في الماضي مرتبطا بتقاليد القبيلة ومجد الأمة وعراقتها وكان ما يفخر به الشاعر هو في الحقيقة جماع القيم والمبادئ التي تستنير بها الإنسانية، ولا تقتصر على القبيلة. ولذلك فنحن حين نقرأ مدائح الماضي أو قصائد الفخر (وهو نوع من مدح الذات) فإننا نواجه عالم الأنثروبولوجيا الثقافية التي شغلت نقاد القرن العشرين، ونحن نفعل ذلك شئنا أم أبينا عندما نقرأ شعر الماضي أيا كان لون هذا الشعر، ابتداء من شعر مصر القديمة واليونان والرومان فالعرب والشعر الأوروبي حتى شكسبير نفسه! أي إن دراسة الأدب الذي انتهى إلينا وأصبح يشكل التراث الإنساني؛ تتضمن قدرا من جهد «الإحياء»، فنحن نحاول أن نتصور عالم القدماء ونعيشه حتى نتذوق أدبهم؛ ولذلك يظل الماضي ماضيا، ثم يأتي أدب الحاضر ويذهب ليلحق بالماضي هو الآخر! المهم أن يكون الحاضر في أدبنا حاضرا لا ماضيا؛ أي أن تكون الإحالة إلى حاضر نعيشه فكرا وشعورا، لا إلى ماض من الفكر والوجدان جميعا، ولا أدل على ذلك من بائية البارودي الشهيرة التي يدرسها الطلبة في كل مكان، والتي يتفاخر فيها بأنه لا يطرب «بتحنان الأغاريد»، و«لا يملك سمعيه اليراع المثقب» (أي الناي). فالإحالة هنا ليست إلى الموسيقى كما نعرفها، ولا أتصور أن البارودي يفخر بعدم استمتاعه بالموسيقى (مثل جيسيكا ابنة شيلوخ اليهودي في مسرحية تاجر البندقية لشكسبير)، ولكنه يفخر في الحقيقة بأنه لا يستطيب مجالس الأنس والطرب واللهو واللعب؛ أي إن الإحالة هنا هي إلى تلك المجالس التي صورها أبو الفرج الأصفهاني خير تصوير، كذلك سيرى القارئ أنه يقصد بالعلياء ما كان يقصده السلف من المجد الحربي، ولا غرو؛ فحياة البارودي في الواقع تؤكد هذا الفهم. والبيت الذي يقترب كثيرا من فن الإبجرام والذي أراد البارودي للقارئ أن يذكره به هو:
ومن تكن العلياء همة نفسه
فكل الذي يلقاه فيها محبب
فالعلا (أو العلياء) بمثابة قيمة مجردة إطارها المرجعي هو الزمان السحيق، وليس هذا العصر، وقس على هذا ما فعله غيره من شعراء الإحياء، فبراعة استهلال شوقي تحيلنا إلى الماضي حين ينشد الأطلال في افتتاحية قصيدته دمشق:
قم ناج جلق وانشد رسم من بانوا
مشت على الرسم أحداث وأزمان
وتحيلنا إلى ماضي المصطلح الشعري حين يعمد إلى المبالغة الصارخة في استهلال رثاء مصطفى كامل:
Неизвестная страница