وهو جالس أمامها، يعرف أن «سان كيو» تعني شكرا، وأنها تشكره. وتظل جالسة، لا تنهض ولا تغضب، وهو يظل جالسا أمامها يغازلها، فالغزل هو أن يقول الرجل للمرأة إنها جميلة، وهي ليست أي امرأة بل هي زوجته، وهو ليس أي زوج، بل ذلك الرجل الحمش كأبيه، والذي لم يكن يسمح لأحد أن يراها من وراء شيش، فما بال أن يراها هذا الرجل الأجنبي وجها لوجه، ويصافحها يدا بيد، ويغازلها بصوت مسموع، وهو جالس أمامه لا ينهض ليضربه أو يضربها، أو على الأقل يعترض ويظهر الغضب، لكنه جالس لا ينهض ولا يعترض، ولا تظهر على وجهه علامات الضيق، وكلما التقت عيناه بعيونهما هز رأسه وابتسم.
فتح عينيه فوجد أنه لا زال واقفا أمام المرآة، وأنه لا زال يبتسم، لكن وجهه نحيل شاحب كوجه أبيه حين مات، وانحناءة الظهر كبيرة، يشد عضلات ظهره محاولا أن يخفيها، لكنها لا تختفي وتظل مرئية، وعضلات وجهه يشدها أيضا محاولا إخفاء الابتسامة، لكنها لا تختفي، ويحرك قدميه لينهض ويسير في الغرفة، لكنه لا ينهض. وهي أيضا تظل جالسة، ويتوقع منها أن تنهض وتسير في الغرفة، لكنها لا تنهض ولا تسير، وتظل جالسة تهز رأسها وتقول: «سانك يو.»
وتخترق الكلمة بصوتها المسموع أذنيه كالسهم، كالدليل المادي تستقر في رأسه، تؤكد له خيانته الأبدية، كأنما تخونه طول العمر، منذ تزوجها وقبل أن يتزوجها، منذ وجدت على ظهر الأرض، ومنذ وجدت الأرض.
جاءت خيانتها كالمفاجأة، كاللطمة الأولى، فوق وجهه، وتوقع من نفسه أن يرد عليها بلطمة أشد، وارتفعت كفه الكبيرة في الهواء ثم اهتزت قليلا في تردد، وكادت أن تسقط فوق وجهه أو وجه أبيه، لكنه عاد وتذكر خيانتها، وبكل غضبه من نفسه ومن أبيه، سقطت كفه الكبيرة فوق وجهها.
وفتح عينيه فجأة ليكتشف أنه لا زال واقفا أمام المرآة، ووجهه لا زال طويلا نحيلا كأبيه، لكنه انقسم وأصبح وجهين نحيلين طويلين، بينهما شق طولي عميق وكفه اليمنى ممدودة أمامه، ومن فوقها خيط رفيع بلون الدم.
القاهرة ، 1983
ليس لها مكان في الجنة
ببطن الكف تحسست الأرض من تحتها، ولم تجد التراب، فارتفع الجفنان من فوق العينين الضيقتين، ومدت عنقها نحو الضوء، وظهر وجهها طويلا نحيلا أسمر البشرة إلى حد السواد.
لم تر وجهها في العتمة، وليس في يدها مرآة، لكن الضوء الأبيض سقط على ظهر يدها فأصبحت بيضاء، وعيناها الضيقتان اتسعتا في دهشة وملأهما الضوء. وبدت عيناها في اتساعهما المملوء بالنور كعيون الحور.
وحركت رأسها إلى اليمين وإلى اليسار في شبه ذهول. مساحة هائلة من الأشجار المورقة فوق رأسها، وهي جالسة تحت الظل، وجدول الماء كشريط من الفضة، وعنقود حباته كاللؤلؤ، ثم ذلك الصحن الغويط المملوء بالحساء حتى الحافة.
Неизвестная страница