كانت معه في الشركة نفسها في مصر القديمة، والحياة أمامهما مساحة هائلة من الضوء البرتقالي بلون الشمس، وذراعاه حين يضمها يحوطان الكون. يملك الكون ويملكها حين يحوطها، ولذة الامتلاك فوق لسانه لها طعم لاسع ووجود مادي.
لم يكن يمتلك شيئا إلا الكون وهي، وحين مات أبوه لم يرث إلا صورته داخل إطار، محفورة في رأسه ومعلقة فوق الجدار، وأبوه داخل الصورة واقفا يتسلم الوسام، مرتديا زي الحفلات، يده ممدودة بامتداد ذراعه، ورأسه محني بانحناءة ظهره.
لم يكن رأى أباه من قبل منحنيا، كان حين يقف يراه طويلا شامخا مشدود الظهر، ورأسه مرفوع. وحين كان زملاؤه في المدرسة يتباهون بأسماء آبائهم وأملاكهم، كان هو يتباهى بأن له أبا لم يعرف رأسه ولا ظهره الانحناءة لأحد.
ولم يكن زملاؤه في ذلك الزمن البعيد يتباهون بأمهاتهم، ولا يذكر الواحد منهم اسم أمه. لكنه في أعماقه كان يتباهى بأمه، فهي لم تعرف من الرجال إلا أباه، ولم تكف عن العمل والحركة إلا محمولة في النعش، وصوتها كالهمس لا يعلو، وخطوتها على الأرض لا يسمع منها إلا حفيف الثوب، وإن عطست بصوت مسموع سدت أنفها بكفها وطلبت المغفرة .
وماتت أمه كأبيه وهي واقفة ، ولم تكن تنام، وإذا نامت لا تشغل فوق السرير إلا مساحة صغيرة ملاصقة للجدار بحجم جسمها، وحين يعود أبوه تنهض، ولا تنام حتى ينام، ولم تمت أيضا حتى مات، جمعت ملابسه ووضعتها في صندوق خشبي تحت السرير، وفي قاع الصندوق وضعت بدلة الحفلات والوسام مشبوك في صدرها، وكرات النفتالين البيضاء الصغيرة من حولها.
أغمض عينيه ثم فتحهما، واكتشف أنه لا زال واقفا أمام المرآة، وأنه يرتدي بدلة حفلات تشبه بدلة أبيه، ومن فوق صدره قرص يلمع كالوسام، لكن وجهه شاحب كوجه أبيه حين مات، ومن خلفه السرير العريض لا زال مستويا كالأرض، كأنما لم يرتفع أبدا، كأنما لم تنم فيه زوجته أبدا. وكانت تنام كل ليلة على جنبها الأيمن، فيصبح ظهرها له ووجهها للحائط، تتكور حول صدرها، وتضم ساقيها حول بطنها، ورأسها أيضا تغطيه، فلا يظهر منها شيء.
جسمها وهي نائمة كان يؤكد له إخلاصها الأبدي، ويملؤه بالثقة في نفسه، ويكاد يتباهى بها في أعماقه، بمثل ما يتباهى بأمه، لولا ما حدث.
أغمض عينيه وهو واقف أمام المرآة، وتلاشت من رأسه صورتها، ونسي ما حدث، لكنه عاد وتذكره، ثم نسيه، مئات المرات، آلاف المرات. يتذكر ثم ينسى، ثم يتذكر. ويراها أمامه، ليست نائمة في السرير، وإنما جالسة، ليس معه، ليس مع أخيها أو أبيها أو أي رجل من الأسرة أو الحي أو حتى البلد، وإنما مع رجل أجنبي، أجنبي تماما، ولا يعرف من العربية كلمة واحدة.
لم تكن تحب ثوبها الأحمر النايلون، وتفضل عليه الثوب القطني الأزرق بلون السماء، بنقوشه البيضاء على شكل زهرة الياسمين، وهو ثوب لم تكن ترتديه إلا له، وفي عينيها لمعة لم تعرفها عيناها إلا معه قبل الزفاف. وبعد الزفاف ظلت اللمعة في عينيها تروح وتجيء، ثم راحت. ولم يعرف كيف راحت، ولكنها منذ راحت وهو يتوجس، وشيء كالوسواس يجيء ويروح ثم يجيء. وما إن يلحظ اللمعة تعود إلى عينيها حتى يتلفت حوله، فإذا لمح نافذة مفتوحة أو نصف مفتوحة تصور أن وراءها رجلا.
كان لا يزال في الشقة الصغيرة في مصر القديمة، وبيوت الناس متلاصقة، ونوافذ الجيران تظل طول النهار مغلقة أو مفتوحة، إلا نافذة واحدة كانت تظل نصف مفتوحة أو نصف مغلقة، والشيش متآكل قديم. والوجه الذي يطل من ورائه متآكل قديم، لكنه وجه رجل، والرجل في نظره لا يقف في النافذة إلا ليطل على امرأة.
Неизвестная страница