وحين أقارن بين البيئة الزراعية في مصر وأخلاقها الإقطاعية الموروثة في نظام العائلة والمجتمع، وحين لا يكون هناك تصادم بين هذه البيئة وبين ما جد علينا من ظروف الصناعة والعلم والفكر العصري ونظام الجمهورية ونظام النقابة ... إلخ؛ أقول إني أجد بيئتنا الزراعية هذه أكثر استقرارا في أخلاقها من البيئات الأوروبية، ولكنه استقرار الركود والأسن، والبعد عن التطور والارتقاء، وخير لنا أن نقلق، ونناقش أحوالنا، ونسأل عن مستقبلنا، ونتعب ونحزن، من أن نستسلم لهذا الركود المريض.
إننا نجد قلقا في العائلة المصرية بشأن الحياة الزوجية والطلاق والزواج وطاعة الأبناء.
ونجد قلقا في الشبان والفتيان الذين ننكر عليهم حقهم في الحياة مع أننا نحمده في الكتب، وأحيانا نجد إنكارا للأخلاق القديمة، وترددا بشأن الأخلاق الجديدة، يؤديان إلى الجريمة في كثير من الشبان.
بل إن كثيرا مما نصفه في المناقشات الأدبية بأنه «معركة» إنما يرجع إلى هذا التناقض الذي سرى إلى هذه المناقشات، للانتقال من القيم الإقطاعية في الأدب إلى القيم العصرية التي اصطبغت بالكثير من ألوان الوسط الصناعي العلمي الارتقائي، وقد لا يبرر وسطنا المصري الجديد كل هذا التصادم، ولكن وسطنا هذا قد أصبح في أيامنا ، من حيث الفكر والرأي والفلسفة، أوروبيا بقوة ما نقرأ ونرى ونلابس من هذه الحضارة العلمية الغالية الغامرة، فنحن نأخذ بقيمها راضين أو كارهين، وننقل هذه القيم إلى الأدب.
والواقع الذي لا ينكر أننا نجد في الأدب العربي الحاضر طائفتين، إحداهما تلك التي تلتزم القيم القديمة، ولا تكاد تختلف من أدباء العرب القدامى، من أن الأدب لذة ومتعة وترف ذهني، وأنه للخاصة الممتازة، وأنه يجب أن يمتاز بلغة الخاصة وإحساسات أو تأنقات الخاصة، وليس شك أن هذه الطائفة تمثل العقلية الإقطاعية الريفية، أو تمثل على الأقل رواسبها المنحدرة إلينا من القرون الماضية، والذي ألاحظه أن هذه الطائفة صادقة الإيمان بمذهبها، كما نجد في تناسق عقيدتها الأدبية هذه مع عقائدها الأخرى الاجتماعية؛ لأن جميع الأدباء في هذه الطائفة يكرهون اللغة الشعبية في الأدب، كما يكرهون مساواة المرأة بالرجل في الحقوق الدستورية والمدنية، كما يكرهون ما يمكن أن نسميه «الأسلوب الديمقراطي»، وهم يهفون على الدوام إلى الماضي يكتبون عنه ويقرءون عنه.
ثم هناك الطائفة الثانية: طائفة القيم العصرية التي تنبع من الوسط الصناعي المدني والقيم العلمية، وهي تنضم إلى سواد الشعب في الأدب، وتقول إنه - أي الأدب - للشعب، فيجب أن يكتب بلغته، وأن يكون كفاحيا في مذهبه؛ لأن الشعب يكافح من أجل حقه في الحياة الكريمة، وأن مشكلة المرأة هي رمز لجميع المشكلات الاجتماعية، ولذلك يجب أن تكون مساواتها بالرجل بؤرة الكفاح، وهي تنتهي من هذا الموقف إلى أن الأدب يجب أن يكون إنسانيا في نزعته، اشتراكيا في برنامجه، وأن ديمقراطية الدولة يجب أن تنطوي على ديمقراطية المجتمع والمصنع والمزرعة والبيت والأدب.
وبالطبع ليس هناك فاصل يفصل فصلا تاما بين الطائفتين، فإنهما تتداخلان هنا وهناك، كما أن آراءنا في فترة انتقالنا الحاضرة تتداخل، فإن الأب المسيطر القديم يسلم بشيء من الحقوق العصرية للأبناء، كما أن الزوج الذي لا يزال يقول بالحجاب الاجتماعي للمرأة قد سلم بإلغاء الحجاب المادي.
نحن في فترة انتقال، في تطور، في قلق وتردد، يشمل أو يصيب المجتمع والعائلة والأخلاق والأدب، وهذا حسن؛ لأنه برهان الحياة.
النزعة الانفرادية في الأدب العربي
في ديسمبر من 1954 نقلت مجلة الثورة حديثا للأستاذ أحمد لطفي السيد عن الأدب العربي جاء فيه قوله: «أرى أن يكون نشر كتب الأدب القديمة في نطاق محدود، وبعد فحص دقيق؛ ذلك أن كثيرا منها لا يخلو من إسفاف يترك أثرا في أخلاق شبابنا ... ودواوين الشعراء مليئة بالمدح الكاذب والتضليل المكشوف، والأدب غير الرفيع، ولا أحب لشبابنا أن يقتفوا أثر هؤلاء الشعراء ذوي الأسماء الطنانة، على حين أن الواحد منهم لا يساوي عشرة قروش!
Неизвестная страница