وحتى إذا كان شوقي والجارم منافقين، فما شأن هذا بالأدب؟! ثم هو يطالبني بأن أذكر محاسن الموتى، مع أنهما لو كانا قد ماتا حقا في قلوبنا وعقولنا، لما وجدنا ما ينتقد عليهما، ألسنا نقرأهما إلى الآن؟! وألم يسكتا الشعب المصري الحاضر بما كتباه؟!
أما الأستاذ عباس خضر فيقول إني أطلب السهولة، وكأنه نسي أني قلت إن الكاتب الفذ هو الذي يجمع بين اليسر والعمق مثل تولستوي.
ثم هو ينقل هذه الأبيات ويزعم أن شوقي قد صار شعبيا بها، مع أنها تنطق بتعالي شوقي الذي ينشدها من فوق السحاب: غني، قوي، يحسن على الفقراء الضعفاء، وما هذا بالأدب الشعبي، إنما الأدب الشعبي هو أن نحس إحساس الشعب ونكافح كفاحه، ونتكلم بلغته، ونصرخ صراخه، ولا نلقي عليه كلمات كما نلقي للجائع لقيمات الصدقة. •••
من أحسن ما اقترحه الدكتور طه حسين قبل نحو عشرين سنة أننا يجب أن ننقل إلى لغتنا ترجمة أدبية لأحد الكتاب الأوروبيين، وهذا اقتراح جميل، وأنا أؤيده حتى ولو كنا نجهل هذا الكاتب الذي سنقرأ ترجمته والانتقادات التي وجهت إليه.
لنقرأ تراجم تولستوي، أو جوتيه، أو أندريه جيد، أو برنارد شو، ونعني تلك التراجم التي تشرح لنا التكشفات الأدبية في أحد هؤلاء الأدباء، وكيف كانت تتصل حياته المعاشية والثقافية بهذه التكشفات، وما هو وقع الحوادث فيها.
نحتاج إلى أن نقرأ هذه التراجم ولو لم نكن قد قرأنا شيئا لهؤلاء الأدباء أنفسهم المترجم لهم؛ وذلك كي نقف على الأوزان والقيم التي يوزن ويقوم بها الأديب وأدبه، وعندئذ نعرف أن هناك وحدة بينهما، وأن ما نجد من طرز أو اتجاهات أو أهداف في أدب ما إنما هو ثمرة الحياة والعيش وأثر المجتمع في الأديب نفسه.
ونحن نجهل هذا التصور للأدب والأديب في اللغة العربية؛ ولذلك قصارى ما نجد انتقاد للكلمة أو القاعدة في تأليف الكلام.
الأوروبيون ينظرون إلى أدب الكاتب كما ينظر أحدنا إلى المبنى الكامل، بكل ما يحتويه من حدائق وطبقات وموقع، وما يدل عليه من فلسفة المهندس الذي وضع تصميمه وأشرف على تشييده، ولكن الناقدين عندنا يقفون عند إحدى اللبنات ويقولون: هذه رخوة أو في غير موضعها.
النقد في أوروبا هو نقد المبنى الكامل، ونقدنا في مصر هو نقد اللبنات: نقد الفاعل والمستثنى والطباق والجناس والمجاز.
ولست أقول بإهمال هذه الأشياء، ولكن المهندس العظيم يتركها للبنائين.
Неизвестная страница