وكتب الأدب العظيمة هي كتب مقدسة، (هل يمكن أن نسمي أشعار أبي نواس مقدسة؟)
بل إن الأديب الحق، الأمين، قد أصبح في نظر قرائه كاهنا أو إماما يربي الضمائر ويوجه الأخلاق كما يطرب النفوس ويمتع العقل والإحساس.
إننا نطالب الأديب في أيامنا بما كنا نطالب به الكاهن أو الإمام في القرون الماضية، نطالبه بأن يكون هو نفسه الصورة الأولى لأدبه وفنه، فنسأل عن اهتماماته وهمومه، ونتجسس - بعد أن يموت - على حياته، وهل كان صادقا، يكتب ما يحياه، ويحيي ما يكتبه؟ أم كاذبا، يجري على المثل السخيف القديم: أحسن الشعر أكذبه؟
بل إننا، بما ثقفنا من المعارف السيكولوجية، نعرف أنه حين يصدر الأديب كتابا للشعب فإنما يصدر نفسه، وأنه إذا كانت حياة الأديب رفيعة فإن أسلوب أفكاره وأسلوب عباراته يكون أيضا رفيعا، وأنه إذا كان يحب الشعب، فإنه يكتب له في بلاغه شعبية يتعب ويعرق في صقلها وتجميلها، وأنه لذلك يكتب في حب وحنان لا يعرف السباب أو البذاء.
والأديب الحق هو الذي يجمع بين العمق واليسر، فيكتب للشعب، مثل تولستوي، دون أن يبتذل الأدب فيحيله إلى أدب غوغاء ورعاع، (ومع ذلك يجب أن أصرح بأن الأدب العامي إذا كتب بإخلاص فإنه يرتفع على الأدب الفصيح البليغ إذا كتب للملوك والأمراء، وأنا أوثر لهذا السبب بيرم التونسي لأزجاله العامية، على أحمد شوقي وعلي الجارم لأشعارهما الملوكية).
وعلى هذا الأساس ألفت كتابي سنة 1934 عن «الأدب الإنجليزي الحديث»، وكنت أهدف، إضمارا، من تأليفه إلى المقارنة بين أدب المذاهب والمبادئ في إنجلترا، وأدب الأحزاب بل العصابات الملوكية والباشاوية في مصر.
وليس الأدب مع ذلك شيئا خالدا؛ إذ هو يتغير بتغير الظروف وحاجات الشعوب وسيكولوجية الأفراد، ولكن يخلد فيه مع كل ذلك شيء واحد هو نزعته الإنسانية.
وفي وقتنا الحاضر، في مصر والأقطار العربية، يجب أن يكون الأدب كفاحا نحارب به رواسب القرون المظلمة، وندعو فيه إلى حرية المرأة ومساواتها التامة في الحقوق والواجبات بالرجل، كما ندعو إلى الحضارة العصرية، أي حضارة أوروبا؛ إذ نحن على يقين بأنه إذا كانت الشمس تشرق من الشرق فإن النور يأتي إلينا من الغرب، وأن ندعو إلى العلم والصناعة لزيادة الثراء، وأن نحارب الغيبيات والخرافات التي أسن بها الشرق وتعفن حتى كاد يموت. وأخيرا يجب أن نتجه نحو الديمقراطية الاشتراكية، ثم، وعلى الدوام، نطلب الحرية، الحرية الروحية بالانطلاق من التقاليد والخرافات، والحرية السياسية بإيجاد حكومات شعبية عادلة.
النزعة الإنسانية هي الشيء الخالد في الأدب، إذا كان ثم خلود في هذا العالم.
ذلك أنه قد توجد ظروف تدعو الأديب إلى أن يحارب ملكا سافلا أو عقيدة فاسدة أو طبقة طاغية أو استعمارا أو استبدادا، فهو يستقطب الضوء على موضوع معين كي يبرزه ويحرك العقول والقلوب بشأنه، وقد يزول السبب الذي كتب وألف من أجله، فتزول قيمة ما كتب وألف؛ لأن الغاية قد تحققت، ولكن تبقى بعد كل هذا النزعة الإنسانية في الأديب؛ لأن حرفة الأديب وعنوانه وهدفه وموضوعه أنه إنساني.
Неизвестная страница