الاختلاف غير السائغ
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، أما بعد: فقد ذكرنا فيما سبق اختلاف التنوع وقلنا: إنه لا بأس من حصوله، ثم ذكرنا اختلاف التضاد السائغ واشترطنا فيه ألا يصادم نصًا جليًا سواء كان ذلك في الأصول أو الفروع.
واليوم نتناول اختلاف التضاد غير السائغ، وهو الاختلاف المذموم، وكثير من أهل العلم يعرفونه بأنه: الخلاف في الأصول أي: في العقائد، والصحيح أن يعرف بأنه: ما خالف نصًا من كتاب أو سنة أو إجماعًا أو قياسًا جليًا لا يختلف فيه، سواء كان في الأمور الاعتقادية العلمية وهذا أكثر أنواع هذا الاختلاف أو كان في المسائل العملية، فكما يذم المخالف دائمًا في مسائل الاعتقاد في الغالب يذم المخالف أيضًا في بعض مسائل العمل، فيذم المخالف الذي يقول بعدم صحة المسح على الخفين، ويذم المخالف الذي يفتي بجواز زواج المتعة، ويذم المخالف الذي يقول: لا ربا إلا في النسيئة.
ومعروف أن ابن عباس ﵁ كان يفتي بجواز زواج المتعة، وهذا قول لا شك في بطلانه؛ لأنه مخالف للثابت من سنة رسول الله ﷺ، ومن يفعله يستحق العقاب، وليس هذا طعنًا في ابن عباس ﵁.
إذًا: كثير من مسائل الفروع -أي الأحكام- فيها نصوص من الكتاب والسنة والإجماع، وقد لا يعذر المخالف فيها، بل قد يكفر، كمن أنكر وجوب الصلوات الخمس وصوم رمضان وحرمة الزنا والخمر، فهذه من مسائل الأحكام المسماة عند الكثيرين بالفروع، وقد يبدع المخالف فيها كإنكار المسح على الخفين، والقول يجواز نكاح المتعة، والأغلب في اختلاف أهل العلم في مسائل الفروع -مسائل الفقه- أنه من الاختلاف السائغ كما سبق ذلك.
إذًا: ضابط خلاف التضاد أنه مخالفة البينات، قال تعالى: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ [آل عمران:١٠٥]، فالذي يخالف البينات يكون مذمومًا، سواء كان خلافه في الاعتقاد أو كان في العمل وهذا أمر مهم جدًا؛ لأن بعض الناس يلغي أي ذم لأي اختلاف عملي ولو كان خلافًا في البينات، ويجعل كل مسائل الخلاف العملي مما يعذر بعضنا بعضًا فيه، وهذا قول خطير، فنقول: قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ [آل عمران:١٠٣] قال ابن كثير: «وَلا تَفَرَّقُوا»: أمرهم الله بالجماعة، ونهاهم عن الفرقة، وقد وردت الأحاديث المتعددة بالنهي عن التفرق والأمر بالاجتماع، كما في صحيح مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة ﵁: أن رسول الله ﷺ قال: (إن الله يرضى لكم ثلاثًا ويسخط لكم ثلاثًا، يرضى لكم: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم، ويسخط لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال).
وقد ضمنت لهم العصمة من الخطأ عند اتفاقهم، كما وردت بذلك الأحاديث المتعددة أيضًا، وخيف عليهم الافتراق والاختلاف، وقد وقع ذلك في هذه الأمة، وافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة منها فرقة ناجية إلى الجنة، ومسلَّمة من النار: وهم الذين على ما كان عليه النبي ﷺ وأصحابه.
انتهى كلام ابن كثير ﵀.
هذا الكلام واضح الدلالة على أن هناك فرقة خارجة عن هذا النوع وهو الاعتصام بحبل الله، وهو الوحي المنزل من عنده، وهو الكتاب والسنة، والإجماع، فقد أشار إلى هذه الأمور التي ضمنت لهم العصمة من الخطأ عند اتفاقهم.
قال: كما قال: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين).
إذًا: لو أن كل الأمة على قول، فلا بد أن تكون هذه الطائفة الظاهرة ضمن الأمة، وهذا القول سوف يكون هو الحق؛ لأن الطائفة ضمن الأمة على الحق، فلهذا يستحيل أن يضيع الحق بالكلية من الأمة الإسلامية، كما كان عليه أصحاب النبي ﷺ من بعده، قال تعالى: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران:١٠٥].
فهناك عذاب وذنب لمن خالفوا البينات وتفرقوا بعد وجودها، قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [آل عمران:١٠٦ - ١٠٧].
عن ابن عباس ﵄ قال: تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسود وجوه أهل البدع والافتراق، رواه النسائي في شرح أصول الاعتقاد، وابن أبي حاتم وأبو نصر في الإبانة، والخطيب في تاريخه.
وقد ذم الله في هذه الآية من خالف البينات، ومن هنا: كان تعريف هذا النوع من الاختلاف المذموم من هذه الآية الكريمة: «وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ»، إذًا: البينات هي الأمر البين الواضح الذي جاء من عند الله وهو من حبل الله هو ما كان.
نص كتاب أو نص سنة أو إجماعًا أو قياسًا دليليًا على هذه الثلاثة، والقياس الدليلي القول به يتفق عليه الصحابة جميعًا ﵃.
وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [الأنعام:١٥٩]، هذه الآية وإن نزلت في اليهود والنصارى كما قال مجاهد وقتادة والضحاك والسدي ووكيع عن ابن عباس إلا أنها تشمل أهل البدع والشبهات والضلالات، إذًا: لا يقال هذا على من اختلفوا خلافًا سائغًا، ولا يقال عن أهل السنة ضمن الفرق؛ لأن البعض يأتي يطلق ذلك على الجماعات الإسلامية المعاصرة، يقول: «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ»، فأي جماعات تكون من «الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا»، ومعنى هذا: أن أهل السنة ضمن الفرق النارية، وكلهم: «لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ»، وهذا الكلام باطل؛ لأن النبي ﵊ تبرأ من الفرق الثنتين والسبعين، وتولى التي في الجنة، كما قال النبي ﷺ: (إلا واحدة).
إذًا: أهل السنة وأهل الحق هم على ما كان عليه النبي ﷺ وأصحابه، وعلى الصراط المستقيم، والذي فرق دينه هو الذي ابتعد عنهم، وهم الذين وصفهم الله بقوله: ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [المؤمنون:٥٣]، فهذا يأخذ جزءًا من الكتاب ويتمسك به ويترك الباقي، والثاني يأخذ الجزء الباقي ويترك هذا الجزء، وهذا ليس كلام أهل السنة أبدًا، فإن القدرية والجبرية كل منهم تمسك ببعض شيء: ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [المؤمنون:٥٣]، وترك الباقي.
الجبرية مثلًا تتمسك بقول الله: ﴿مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ﴾ [الأنعام:٣٩]، وتقول: ليس للإنسان قدرة وإرادة، والقدرية تتمسك بقوله: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾ [التكوير:٢٨]، وهذا الكلام تحريف للدين، وتفريق له، وعدم إيمان بالكتاب كله، وهذا هو المذموم.
أما أهل الحق فهم السائرون على الصراط، وكل من يبعد عنهم فهو من الذين «فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا»، وليس أهل الحق من يقال عنهم هذا الكلام بنص هذه الآية.
عندما يقول شخص عن الجماعات المختلفة: هذه الآية دليل على أن أي تجمع يكون من «الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا»، هذا ظلم بين، واستدلال في غير الموضع، بل تحريف لمعنى الآية؛ لأن الآية لم تشمل من كانوا على ما كان عليه النبي ﵊ في الذم، إنما ذم وتبرأ وأمر الله نبيه ﷺ أن يتبرأ من الذين فرقوا دينهم.
أما أهل السنة فجمعوا الدين والتزموا به، حتى وإن أصبحوا واحدة من ثلاث وسبعين، لكن من الذي سبب وجود الثلاثة والسبعين؟ من المذموم على فعله؟ المفارقون المخالفون أهل البدع والضلال، فهم هؤلاء الذين صنعوا التفرق.
قال ابن كثير ﵀: والظاهر أن الآية عامة لكل من فارق دين الله، وكان مخالفًا له، فإن الله بعث رسوله ﷺ بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق، فمن اختلف فيه وكانوا شيعًا -أي: فرقًا كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات- فإن الله تعالى قد برأ رسوله ﷺ مما هم فيه.
وهذا فيما هو من الدين، أما ما فيه اجتهاد فهو داخل ضمن قوله: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ [الأنبياء:٧٩].
وقال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ [الشورى:١٣]، أمرنا الله أن نقيم الدين ولا نتفرق فيه، وقال: ﴿وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَ
5 / 2