Знаменитости исламской мысли в новейшее время
أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث
Жанры
وقد أخبرني رجل مغربي صالح ثقة اسمه الحاج أحمد، وكان مختصا بخدمة بيت الشيخ، أن المترجم لما جلس مكان والده في الحجرة وصار يطالع الدرس بالليل، كان والده يتجلى له ويرشده بروحانيته إلى ما استعصى عليه فهمه من المشكلات.
وقص على أمه ما يرى، فقالت له: إن أرواح الصالحين تحضر وتزور من تحب. وكانت من العابدات الصالحات، قل مثلها في زمنها، ثم إنها أخذت الأستاذ وذهبت به إلى العلامة أبي الخير الخطيب في دمشق وأوصته به خيرا، فعامله الشيخ المذكور معاملة ولده؛ لما رأى عليه من سيماء النجابة والذكاء المفرط مع خلق كريم وورع عظيم، وشغله بحفظ المتون في الفنون المختلفة، فحفظ الألفية والشاطبية وألفية الحديث للعراقي وغيرها مما يقدر بستة آلاف بيت، ثم شفعها بقراءة شروحها بفهم وإتقان، ولم يكمل الثامنة عشرة من عمره، حتى نبغ نبوغا باهرا خارقا للعادة، لفت إليه أنظار مشايخه، فأجازوه إجازة عامة، وأذنوا له في التدريس والتأليف، فشرح «غرامي صحيح في مصطلح الحديث» ولما يكمل العشرين من عمره، وطبع الشرح سنة 1286ه، ثم أقبل على المطالعة لنفسه بهمة شماء وعزيمة صحيحة، لا يفتر عن ذلك آناء الليل وأطراف النهار، وحفظ من الأحاديث بأسانيدها ما شاء الله أن يحفظ. ويقال إنه يحفظ البخاري ومسلم بأسانيدهما، ولا يغيب عنه حديث قط من الكتب الستة، ومن رأى الأستاذ في درسه العام وهو يسرد الأحاديث بأسانيدها ويتكلم عليها بأنواع العلوم، علم أن الله اختصه بقوة حافظة خارقة للعادة لم يسمع بمثلها، ثم صار يكتب على بعض المتون شروحا؛ فشرح «الإظهار» شرحا مفيدا جدا، ومنظومة «موافقات سيدنا عمر» للسيوطي، وشرح «البيقونية»، ومتونا كثيرة في الصرف، وكتب حاشية على «شرح المحلي على البردة»، وحاشية على «الجلالين» في أربعة مجلدات، وكتب شرحا على «مختصر ابن الحاجب»، وقد رأيت ذلك كله بخطه، وله تقييدات كثيرة على أطراف الكتب، ولعل له تآليف أخر لم أطلع عليها؛ لأنه يريد ألا ينسب له شيء منها تواضعا، وقد محا اسمه عنها كلها هضما لنفسه، كل ذلك ولم يتجاوز العشرين من عمره ، ثم صار يقرأ للطلبة في الجامع الأموي النحو والصرف والبلاغة والمنطق والفقه وغيرها.
وقرأ درسا عاما بين العشاءين، وسمعت أنه كان يقرأ تفسير البيضاوي عن ظهر قلبه دون أن يحمل كراسا، وكان جهوري الصوت، يجتمع عليه الخلق الكثير صفوفا صفوفا، فتعطلت دروس غيره من الشيوخ لشدة فصاحته ولإخلاصه الخالص.
ثم اعتزل في حجرته بالمدرسة ولم يخرج منها مدة سبع سنوات، حتى يقال إنه ما كان يرى أبدا، ويصلي فيها حتى الجمعة لالتصاق حجرته بالمسجد من جهة الشرق، فأكب خلالها على المطالعة والحفظ، مقبلا بكليته على علم الحديث حتى صار فيه الحجة البالغة، ثم رحل إلى حمص، فأقبل عليه أهلها إقبالا عظيما وأخذوا عنه، وكان ذلك في سنة 1294ه، ثم رجع إلى حجرته في المدرسة حتى جاوز الثلاثين، فقرأ درسا عاما في جامع السادات عن ظهر قلبه من صحيح البخاري، وقد بهرت الناس فصاحته وتكلمه على الحديث الواحد من علوم شتى لم تعرف بديار الشام، مثل الحكمة والطب والرياضيات وغيرها، وانتقل لكثرة الخلق عليه - لما ضاق بهم الجامع - إلى جامع سنان باشا، فكان يقرأ ليلتي الجمعة والاثنين من بعد المغرب إلى العشاء، ويجتمع عليه الألوف من الناس، ويأتون من قبل المغرب فيصلون في الجامع، ويمكثون لشدة الزحام في أماكنهم لامتلاء المسجد بسدتيه العليا والسفلى حتى الرواق وصحن المسجد الخارجي، وكان يحضر درسه العام عزت أفندي متصرف دمشق التركي إذ ذاك بعد أن يبدل ثيابه ويلبس جبة وعمة على هيئة أهل العلم، وأحبه محبة عظيمة، وما إن اجتمع في الآستانة بالوزراء وأهل الحل والعقد حتى أخبرهم بالأستاذ وأنه مع حداثة سنه من أجل المحدثين، متكلما عن ظهر قلبه في سائر الفنون مع فصاحة وطلاوة تأخذان بمجامع القلوب، فأثمرت مساعيه تعيين عشرة ليرات معاشا شهريا للأستاذ دون علمه، حتى إن الأستاذ كان على عاداته يقرأ الدروس في الأصول والتوحيد والمعاني والوضع والمنطق كحاشية الأزميري على المرآة وحواشي التلويح والمطول والأطول والخيالي وحواشيه والعصام والكفوي على الوضعية والقطب على الشمسية وشرح حكمة الإشراق وغيرها، وبينما هو يقرأ الدروس جاءه رسول الوالي فقدم له ظرفا كبيرا يحوي براءة سلطانية بالمعاش المذكور، فقال الأستاذ له: ليس هذا لي، وامتنع عن أخذه مع أنه كان في أشد الحاجة، ثم لم ير بدا من قبوله.
ثم تزوج المترجم بكريمة العارف بالله ذي الكرامات الظاهرة والمناقب الفاخرة العالم الكامل السيد الشريف محيي الدين العاني الرفاعي، ورزق منها أولاده، وصار أخو المترجم الشيخ أحمد بهاء الدين يتناول المعاش ويتولى أمر البيت، والأستاذ مشتغل بقراءة الدروس.
وفي سنة 1298ه أسند إليه التدريس في الجامع الأموي، فقرأه باحتفال حضره أعيان العلماء والرؤساء والوالي وجماعته، وكان إذ ذاك «مدحت باشا»، فابتدأ بالحديث الأول من صحيح البخاري ذاكرا سنده ومشايخه، وأتى على مقدمة عظيمة في علم الحديث شارحا منقوله ومعقوله، وما ترك علما من العلوم إلا ذكر شيئا منها، واختتم بالدعاء بالصلاح والتوفيق لولاة الأمور، واستمر كذلك في إلقاء هذا الدرس كل يوم جمعة بعد صلاتها إلى أذان العصر، مبينا ما يبنى على الحديث من الأحكام الشرعية على اختلاف مذاهب المجتهدين، مرجحا الأقوى منها مأخذا وأدلة، وقد تبلغ الأحاديث التي يذكرها مما يتعلق بحديث الباب مائة حديث، ويدلل على المسألة الواحدة بما يطبقه من علم الأصول وآداب البلاغة في البحث والتفسير والتوحيد والأدوات كلها حتى الحكمة والفلسفة والطب والهيئة والهندسة ، مما يبهر السامعين ببديع تقريره، ومن بينهم أحد الذين تخصصوا في الطب والرياضيات مثلا فيشهد له حين يسمعه باليد العليا في هذه الفنون.
وعلى الرغم من حضور درسه الحكام والأمراء والقضاة جلوسا جانبه وحوله، وأكثر الحاضرين وقوف، فإنه يبلغهم جميعا صوته بلا توقف ولا تلعثم منتقلا من البحث إلى الآخر بأدنى مناسبة، ويذكر الأحاديث المخوفة مشددا الأمر على من بيدهم أمور الناس فيبكيهم ويذكرهم بالعودة إلى الرجاء والثواب للعادلين والذين لأماناتهم وعهدهم راعون، بين ترغيب وترهيب في وصف العلاج، شأن الحكماء، مع إجابته متيسما متلفتا عما يخطر ببال المتخصص بعلم من الأسئلة متكلما فيه مفيدا ومجيدا، ويختم درسه بآيات مطبقا إياها بما يحير الألباب، ومن عادته الجلوس في مصلاه بعد صلاة الفجر مع الجماعة قارئا أوراده إلى طلوع الشمس مؤديا صلاة الضحى وما قطعها مرة حتى في الحج، فيقوم للوضوء مستقبلا القبلة داعيا ومصليا بعد عودته إلى غرفته نوافل كثيرة، فإذا أذن للظهر صلاه مع الجماعة إلى صلاة العصر قارئا درسا أو أكثر إلى قبيل المغرب فيصليه جماعة أيضا، ذاهبا إلى داره بعد الصلاة، فيفطر ويجلس للدرس في بيته ويحضره الكثير من الخاصة والعامة، إلى أن يصلي العشاء جماعة، ثم يذهب إلى مضجعه، علما بأنه لم يصل إماما في حياته، مع كونه لم يترك صلاة الجماعة أصلا، وكان يزور أهل الصلاح والتقوى والفقراء متفقدا مدارس الأولاد الصغار طالبا الدعاء منهم ومن معلميهم ماسحا برءوس الأيتام، وكذلك زيارته المسجونين ناصحا واعظا متلطفا معهم، ولم يدخل طول عمره دواوين الحكومة، متورعا كثيرا في الفتاوى الفقهية، وكثيرا ما يحيلها إلى بعض تلامذته، وقد وصفه أحد علماء الهند بقطب الزمان ومجدد الأوان، كما كان شيخ الإسلام في الآستانة يقول عنه إنه قطب العالم الإسلامي، ورحل إلى الحجاز مرتين، فقرأ بمكة المكرمة بعض كتب الحديث، كما زار مصر مجتمعا بالشيخ الأشموني رفيق والده في الأزهر، وذهب إلى القدس الشريف وغيرها.
وكانت زيارته للروضة النبوية الشريفة في حجته الأخيرة سنة 1333ه قبيل صلاة الجمعة، فاغتسل ولبس أحسن ثيابه، ثم توجه إلى الحرم النبوي، فلما دخله اجتمع عليه الخلق، ولكنه لم يكلم أحدا منهم حتى خرج، ثم أخذ يستقبل أفواجا بعد أفواج من العلماء والطلبة وغيرهم، ثم رحل إلى الآستانة مرتين، وعين أستاذا للعلوم الدينية، وتولى مشيخة الإسلام في حكومة الملك فيصل الأول.
وكان رحمه الله ربعة، خفيف العارضين، قليل شعر الوجه، مرتفع الجبهة وعليها أثر السجود، وآية المهابة والنجابة والذكاء المفرط تلمع من وجهه الأبيض وعينيه الحادتين جاذبية، ويداه كالحرير لينا والفضة بياضا، يلبس الثياب البسيطة التي لا تميزه عن غيره، قليل الكلام إلا في الدرس، ورعا، مضرب الأمثال، ما قبل هدية قط، ولا رئي مفطرا فيما عدا الأيام المنهي عن صيامها، مهتما بأمور الخلق أكثر من اهتمامهم بأنفسهم، حريصا على نفعهم ومنفعتهم، شافعا لهم عند الحكام فلا ترد شفاعته، كما كتب إلى كثير من الملوك والأمراء والحكام في أقطار الأرض، حاثا لهم على العمل وإقامة الحق بين الخلق، فلسان الخلق أقلام الحق، رحمة الله عليه وعلى أمثاله من أهل الصدق بين العالمين.
طاهر الجزائري
Неизвестная страница