وقد أراد الإنكليزي أن يداعب الكلب من قبيل المجاملة والتودد لصاحبه، ولكنه لم يكد يضع يده على فروته حتى جذبها، وقد اهتز وانتفض، كأنه قد أصيب بهزة من تيار كهربائي، أو كأن يده قد لمست النار.
وتوالت الساعات بعد طعام الغداء، وذهب جميع المقيمين في الفندق إلى الردهة، وبلغت الساعة الثامنة من المساء دون أن يحضر صاحب الكلب الأسود، وعند ذلك نهضت الفتاة الإنكليزية التي كانت قد ذعرت من الكلب، ومشت بضع خطوات في الردهة، فتعثرت بذيل ثوبها، وسقطت على الأرض سقوطا لم تكن تتوقعه ولا يتوقعه أحد، فعاود الناس الرعب، وانقطعوا عن الأحاديث، وقد بلغ الخوف منهم أشد مبالغه، ولم يعلموا أكان سقوط الفتاة من عين البارون، أم من عين هذا الزائر الجديد.
ثم ظهر لهم أن صاحب الكلب الأسود كان يختار قاعة الطعام، حين نهوض الفتاة، فأيقنوا حين دخل إلى الردهة أن هذا السقوط إنما كان منه لا من البارون. أما صاحب الكلب الأسود فإنه دخل غير مكترث لما رآه من رعبهم، ومشى إلى منضدة، فنادى الخادم وسأله أن يأتيه بزجاجة من البيرا وبسيكار هافاني، فجعل يشرب ويدخن.
وعند ذلك دخل البارون يصحبه أحد خدمه، فجلس أيضا في تلك الردهة، وهو يبتسم ابتساما يشف عن الكبرياء؛ إذ كان يعتقد أن جميع الحضور سيهربون حين دخوله كعادتهم، ولكنهم لم يفعلوا شيئا من ذلك، بل لبثوا في مجالسهم كأنهم باتوا واثقين من أن صاحب الكلب أسود سوف يحميهم من عينه الشريرة.
وكان صاحب الكلب الأسود ينظر إلى الحضور دون أن يلتفت إلى البارون، فلما استقر به المقام نهض صاحب الكلب من مجلسه، ودنا منه وسيكاره في يده، فقال له: أتأذن لي أيها البارون أن أشعل سيكاري من سيكارك؟ فانتفض البارون كأن قوة كهربية قد هزته ، وصاح صيحة رعب، ثم تراجع منذعرا، فإن نظراته التقت بنظراته، فانتفض هذا الانتفاض، وأصيب بهذا الرعب الذي لا يوصف.
في الساعة السادسة من صباح اليوم التالي كثر اللجب في فندق الملوك الثلاثة، فقد كان خادما البارون يذهبان ويجيئان، وهما تارة يجيئان عن مركبة الأومنيبوس وتارة يطلبان بيان الحساب، وعلى الجملة فقد كان كل ما يفعلانه يدل على تأهبهما للرحيل، وقد جلس كل زائر من المقيمين في الفندق في نافذة غرفته، وأقام ينتظر رحيل البارون بذاهب الصبر، إلى أن أتت مركبة الأومنيبوس، وحملت صناديق البارون إليها، فكان أشد الناس سرورا بهذا الرحيل صاحب الفندق.
ثم ظهر البارون مستندا إلى كتف أحد خادميه، وهو منحني القامة، وقد تدلت شفته السفلى من الضعف وخمد نور عينيه، فكان من رآه يحسب أنه بلغ مائة عام من العمر، وهو لم يتجاوز الأربعين بعد، ولكن الهم والخوف صيراه إلى هذه الحال.
وقد صعد إلى المركبة وقال لسائقها: أسرع بالابتعاد عن هذا الفندق، فإن كل ما فيه مجلبة للشر، وكان الكلب الأسود واقفا هناك كأنه كان ينتظر مرور المركبة، فلما مرت به نبح مرتين بشكل يختلف عن نباح الكلاب المعروف، فأجفلت الجياد وجمحت.
وكان صاحبه واقفا في ردهة الفندق، وبجانبه ذلك الفرنسي الذي أنكر تأثير العين، فقال له: هل صرت تؤمن بتأثير العين؟
فأجابه بصوت يضطرب قائلا: شهد الله أنني أول من آمن!
Неизвестная страница