أرى أيها السادة من واجبي قبل كل شيء أن أنحني بكل احترام وإجلال تحية لصاحب عرش مصر على ما أبداه من التفاني في شد أزر أمته والأخذ بناصرها في هذا الدور العظيم من أدوار تاريخها الطويل المجيد.
لقد كان من بواعث سعادتي أن رأيت بنفسي عن كثب ما قام به مليكنا النبيل من الجهاد في القضية المصرية، فأثبت بهذا أن الدم لا يكذب، وكتب لنفسه في تاريخ المجد صحيفة خالدة جديرة بابن إسماعيل وحفيد إبراهيم ومحمد علي، فليحيا سيد مصر المستقلة، ولنهتف جميعا من قلب مفعم بالإخلاص والولاء: ليحيا جلالة الملك فؤاد الأول.
ثم نحيي بعد ذلك هذه الأمة الكريمة التي عرفت قدر نفسها، واستمسكت بحقها، وأبت أن تتنازل عما يوجبه عليها تاريخها الحافل بالعظائم، ويحتمه عليها ماضيها العظيم، وأظهرت من الحكم وسداد الرأي ما أكسبها احترام الأمم، وجعلها جديرة بما تطمح إليه من المستقبل الزاهر. فإنه إذا كان لأحد فضل فيما وصلنا إليه وفي ما سنصل إليه بعون الله وتأييد مليك البلاد، فإن الفضل في الواقع للأمة بأجمعها، ولما أبداه كل فرد منها كبيرا أو صغيرا في صدق الوطنية وروح التضحية.
أيها السادة؛ أنتم من صفوة أبناء الأمة، ومن خيرة أهل الفضل والحجى فيها، ولكم أكبر مصلحة في نجاحها ويسرها، فأنا أنتهز هذا الظرف السعيد لكي أكاشفكم بما يجول في نفسي، وأخاطبكم اليوم لكي أستمد العون والتعضيد منكم على ما أنا ماض فيه مع زملائي، فإنما نحن لكم نعمل وبكم نعتز، وليس لنا من الحول إلا بمقدار ما نرى منكم من الأخذ بناصرنا، وما تولونا من ثقة.
لنرجع إذن أيها السادة قليلا إلى الوراء لنتعرف الحالة على حقيقتها، ولنتبين منها أهمية الخطوة التي خطوناها أخيرا.
بسطت بريطانيا العظمى حمايتها على مصر في 18 ديسمبر سنة 1914 على أثر دخول تركيا الحرب العامة وانضمامها إلى دولتي الوسط، وأعلنت في تبليغها للمغفور له السلطان حسين كامل أن جميع الحقوق التي كانت لتركيا قد سقطت عنها، وآلت إلى الحكومة البريطانية، ولكنها أعلنت في الوقت نفسه أنها تعتبر هذه الحقوق وديعة تحت يدها لسكان القطر المصري.
كانت نيران الحرب مشتعلة والنفوس ثائرة، وقد أوشكت أركان الحضارة أن تنهار، وأصبح مصير الشعوب معلقا في ميزان القدر. فلم يكن في وسع مصر إلا أن تصبر حتى تنجلي هذه الكارثة ويتبين وجه الحق، وأقبلت على بريطانيا تنجدها نجدة الكريم للكريم، ولم تدخر جهدا في سبيل مدها بالمعونة حتى بسم ثغر النصر، فلما أمضيت الهدنة بادرت مصر تقاضي إنكلترا ما وعدت به في إعلانها من أن حقوق تركيا وديعة تحت يدها لسكان مصر، وتطالبها برد الوديعة لأصحابها.
ولا أرى داعيا إلى الإسهاب في بيان ما وضع في هذه السنوات من الجهاد الطويل، وما حدث فيه من التطور في الأفكار، فكلكم اشترك فيه، وكلكم كان من المجاهدين، ولكني أذكركم أني كنت في ذلك العهد عضوا في الوزارة متشرفا فيها برياسة ذلك الوطني الجليل حضرة صاحب الدولة حسين رشدي باشا وزميله الصديق الوفي الأمين دولة عدلي باشا، فأبت الوزارة أن تسكت على حق مصر أو تقبل في هذا الحق هوادة أو تسويفا، فلما حالت الحكومة البريطانية بيننا وبين إبداء ما نريد كانت الاستقالة المعروفة، ولا ينكر أحد ما كان لهذه الاستقالة من الأثر في تاريخ الحركة المصرية.
كان المذهب الذي تذهب إليه الحكومة البريطانية في بادئ الأمر أن مصر قد دخلت في دائرة الحماية فلن تخرج منها، وقد أوفدت اللورد ملنر إلى مصر لكي ينظر في خير الأنظمة لهذه البلاد في دائرة الحماية، فلما تبين لها أنه ما من مصري يرضى بتلك الحماية التي فرضت على مصر فرضا لضرورات خاصة، تحولت عن موقفها الأولي، وانتهى بها الأمر إلى الاعتراف بأن الحماية لم تعد علاقة مرضية، وطلبت إلى مصر المفاوضة في إبدال هذه العلاقة بغيرها.
يتبين لكم من هذا أن السياسة البريطانية تجاه مصر كانت قائمة على أن إلغاء الحماية لا يمكن أن يتم إلا في مقابل علاقة جديدة تحل محلها، وعلى أن لبريطانيا العظمى في هذا القطر مصالح جوهرية لا بد لها من تأمينها وضمانتها، فلن تعترف باستقلالنا إلا متى أعطيناها هذه الضمانات.
Неизвестная страница