لقد كان لتلك المذكرة الإيضاحية أسوأ وقع في نفوس الشعب عامة، وآلم أثر في قلوبه، وأشد صدمة لآماله ومطامحه، وأدمى طعنة لعزته وكبريائه؛ ذلك أن الشعب المصري بعدما أتته دعوة المفاوضة من جانب الحكومة الإنكليزية في أجمل شكل وأحسن صيغة، مال إلى حسن الظن بتلك الحكومة، وقال في نفسه: «لا يبعد أن هذه الدولة الجبارة قد اهتدت أخيرا إلى أن أقصد السبل، وأنجع الوسائل إلى حل مشكلتنا وتسوية مسألتنا هي سياسة الصراحة والوضوح، والأخذ بمبدأ العدالة والحق بعد ما تبين لها فشل سياسة الختل والخديعة.» وبناء على ذلك فاوضت مصر إنكلترا على لسان وفدها الرسمي الذي كان يرأسه دولة الرئيس الخطير عدلي يكن باشا، فكيف كانت نتيجة المفاوضات؟ كيف كانت نتيجة ما ادعاه الإنكليز من سياسة الصداقة والوداد والمحابة والمصافاة والعمل على توطيد دعائم السلام ونشر أعلامه؟ كانت هذه النتيجة هي قطع المفاوضات من جانب وفدنا الرسمي بما شرفه وشرف الأمة جمعاء، وإعلان إنكلترا تلك المذكرة الإيضاحية المصرحة - بما لا يتفق مع ما ادعاه القوم من الميل إلى المسالمة والمصافاة، والنية على توطيد دعائم السلام ونشر أعلامه - من مظاهر الاستعباد الذي ليس دونه استعباد، وآيات الاستبداد الذي ليس وراءه استبداد. كانت نتيجة ذلك هي تلك المذكرة التي صورونا فيها بصورة شنيعة منكرة؛ تبريرا لما أعدوه لنا من أغلال الرق ونير العبودية، حتى قالوا إنهم يرون من واجباتهم حماية عرش سلطاننا، وحماية بعضنا من بعضنا كأنما الشعب المصري قد بلغ من همجيته وانحطاطه أنه صار عدو نفسه، وهي لعمري نقيصة يبرأ منها إلى الله أشد الأمم همجية وانحطاطا. كانت النتيجة أنهم لم يكتفوا بإعلان ذلك المشروع البغيض حتى كلفونا أن نرضاه ونقره بعدما علموا وعلم العالم أجمع رغباتنا ومطالبنا، واطلعوا على برنامج وفدنا. كانت النتيجة - وذلك أشنع فصولها وأنكر أركانها - أنهم أنذرونا وهددونا بتنفيذ مشروعهم على الكره منا، وعلى الرغم من أنوفنا بالقسر والقوة.
من أجل ذلك كله، نقول إن يوم 3 ديسمبر الذي أعلنت فيه هذه المذكرة الممقوتة كان أعصب يوم في تاريخ الحركة المصرية.
ما كان أكذب آمال الأمة المصرية يوم غرتها من مواعيد الإنكليز في الدعوة إلى المفاوضات لمحات السراب وبارقات الخلب! سحابات أبخرة الأباطيل تنقشها بأجمل الألوان كف الخديعة الخاتلة! ما أجملها في عين ناظر يشيمها بلحظ الغرور! وما أروحها لقلب ساع يهرع نحوها بسرعة الصب المفتون! وما أفرغها في النهاية! وما أخلاها من كل فائدة وطائل!
كيف خبت كواكب الأمل المشرقة، واكفهر وجه السماء، وأنذرتنا من جانب الأفق طوالع النحس؟ فهل كان الرجاء انقطع بتة؟ وهل ضاع الأمل آخر الأبد؟ كلا، إنما أرجئ الأمل وسوف الرجاء. لم يمح الأمل ولم يزل، وإنه وايم الله بطبيعته غير قابل للمحو والزوال، وهو العنصر الأبدي في طبيعة الإنسان، وهو القاعدة التي يقوم عليها كيانه، وهو ميراث الإنسان وذخيرته الوحيدة حين تسلب منه سائر الذخائر. أو لم يسم الفلاسفة والحكماء هذه الدار الفانية التي يسكنها الإنسان «دار الأمل»؟
ما أقسى تقلبات الصروف السياسية بهذه الأمة المصرية المجيدة! وكيف لا يزال مصباح الأمل يستدرجها على سنا شعاعه البراق في أوعار السياسية العسوف وفي صعابها وأوعاثها! وكيف لا يزل يومئ إليها أن تتتبع شبحه المتلون في تلك المجاهل والمعاسف، مشرقا عليها تارة بابتسامة العطف والتشجيع، وتارة متأججا متوهجا بلهيب النذير والتحذير؟! ولكنه باق أمام عينها في جميع الحالات، وعلى كل التقلبات، لا يخبو مصباحه، ولا يخمد لماحه - حتى في أشد حالات اليأس والقنوط. وما هو اليأس، وما معناه؟ وهل اليأس سوى نوع من الأمل؟ وهل كان فرط اليأس وغلواؤه إلا مقياسا لمبلغ ما فينا من قوة وحياة ومقياسا أيضا لمقدار حقنا في الأمل والرجاء؟ وهل ترى دخان اليأس مهما اشتد سواده إلا مصيبا يوما ما من روح الله، ومن همة الشعب جذوة صدق، وجمرة حق تشعله ضراما وهاجا يملأ الأرض والسماء بضيائه؟
لا خوف على الأمة المصرية الكريمة مما أصابها من شديد الحزن لأسوأ ما حل بها أثناء جهادها المجيد - أعني لتلك المذكرة الإيضاحية التي مست صميم كرامتها، وجرحت كبرياءها وعزتها، وسخرت من مقدس أمانيها ومطالبها - لا خوف على الأمة المصرية مما أصابها من حزن وكمد في سبيل جهادها. بل لا خوف على الأمم عامة ولا على الأفراد من الحزن الشريف والكمد المجيد؛ فإن نيران مثل هذا الحزن لهي خير بوتقة لتصفية جوهر النفس وتنقية معدن الروح، وهي أقوى أداة لإشعال الهمم وإلهاب العزائم حتى تندفع في سبيل جهادها الشريف بإضعاف ما بها من قوة وحدة. فلتغتبط الأمة بأحزانها في سبيل قضيتها، أو ليس ذلك الحزن مقياسا لمبلغ ما عندها من شعور وإحساس ومن مقدرة وكفاءة، بل من غلبة وظفر وانتصار؟ ألا إن حزن الأمة المجاهدة ما هو إلا صورة معكوسة لمقدار ما لها من عزة وشرف ونبل؟ فلتغتبط الأمة المصرية الكريمة بأحزانها، ولتبتهج بأشجانها، ولتجعلها مصدر همة وعزم ومضاء.
ولتوقن أن هذا الاستعباد الإنكليزي إنما هو أبطولة وأكذوبة، وكل أكذوبة فإلى الزوال مصيرها مهما امتدت بها العصور وتراخت بها الأزمان. بذلك قضت نواميس الطبيعة، وحكمة هذا النظام المقدس، فإنه لا دوام للباطل؛ بل إن الحق ذاته لا يدوم على صورة واحدة، ولا بد له أن يغير صورته ويبدل شكله وصيغته من آن إلى آن، حيث يخلق خلقا ثانيا ويولد من جديد. أما الأكاذيب - وعلى الأخص أكذوبة استعباد الأمم والأفراد التي خلقها الله حرة طليقة - فلقد سجل عليها حكم الإعدام منذ الأزل في صحيفة الأقدار، فهي تسير بطيئا أو سريعا إلى ساعتها المحدودة - إلى حينها المحتوم، وحتفها المحموم، والسر في ذلك أن هذه الحياة لا يمكن أن تقوم على أساس الباطل، وهذا الإنسان (الذي هو صورة الله في الأرض، مهما شابت قداسة روحه شوائب الخبائث والدناءات) لا يمكن أن يقوم على أساس من الكذب والضلال، ولكن السياسة - تنفيذ لمآربها الأنانية وأغراضها الاستعمارية - تجهل ذلك أو تتجاهله، وليس بنافعها هذا الجهل أو التجاهل إزاء ناموس الطبيعة العادلة وسنة الله الحكيمة، واستبدادها العقيم مقضي عليه بالفشل، محكوم عليه بالفناء مهما طال أجله وتراخت مدته.
لقد يخيل إلى زمرة الساسة والاستعماريين أن استمرار سياسة الظلم والجور في أرض الله بلا قامع ولا مبيد، وتمادي دولة الاستبداد والاستعباد دون أن يصدر وينفذ عليها ما تستحقه من حكم العدالة الإلهية؛ دليل على خلو هذا العالم الأرضي من قانون العدل والإنصاف، ولكنهم في ذلك مخطئون غافلون، فإن حكم العدالة الإلهية في هذه الحياة الدنيا قد يؤجل اليوم واليومين بل القرن والقرنين، ولكنه حقيقة مؤكدة لا ريب فيها ولا مناص منها، حقيقة محتومة كالحياة نفسها وكالموت ذاته. ولا جرم، فإنك إن أنعمت النظر في زوبعة الحياة الدنيا - تلك الزوبعة المضطربة العاصفة الهوجاء البادية لعينك كأنها كلها هرج ومرج وتشويش واختلاط - وجدت أنه في أعماق أعماقها يستقر، وينطق إله منصف عادل، وألفيت أن روح هذه الدنيا إنما هي الحق والعدالة. فهذه الحقيقة الهائلة التي ما برحت منذ كان الإنسان تبدو لعينه ناصعة باهرة - سواء كان مسلما أو كتابيا أو بوذيا أو وثنيا، وسواء سكن قصور باريز أو غابات أمريكا أو زمهرير القطب أو سعير الاستواء - هذه الحقيقة الهائلة إذا جهلها الساسة فقد جهلوا كل شيء، وقد باعد الله بينهم وبين النجاح كما باعد بين الأرض والسماء، وأنى لهم بالنجاح وقد ظلوا يناوئون ويعادون ناموس الطبيعة وروح الوجود، ويكافحون الكون أجمع في معركة لن يخرجوا منها إلا مثقلين بأفدح أعباء الهزيمة والخسران.
ألا إن في كل شيء خيرا؛ وقد كان للأمة المصرية في تلك المذكرة الإيضاحية خير وإن بدا متلفعا برداء وهاج من لهيب الألم وضرام الحزن المتسعر. لقد كانت الأمة أصيبت من قبل ذلك بشر ما يصيب الأمم الناهضة المجاهدة من العلل والأدواء - أعني بداء الانقسام والتحزب - وكان ذلك الداء الخبيث قد فشا في جسدها، ونقض من أسباب ائتلافها وتماسكها، وفصم من عرى اتحادها وتضافرها، وهدد كيانها بالتهدم والانحلال، وكاد يمسها في صميم نفسها، ويذهب بما قد ملأ قلبها من روح الوطنية العالية والتضحية الشريفة. فما هو إلا أن لطمتها السياسة الإنكليزية تلك اللطمة القاسية، وطعنتها تلك الطعنة الدامية حتى أفاقت من سكرتها، وهبت من رقدتها، ونفضت عن أعطافها غبار الفتور الذي كان جللها به ريح الشقاق والنزاع، كما ينفض الأسد الهصور غبار الكسل عن لبده - ثم تحركت ونشطت كأنما قد أفعم قلوب ملايينها العديدة روح واحدة لا تقبل الانقسام والتجزئة، وأعلنت بلسان واحد وبصوت واحد يملأ الفضاء الرحب، ويهز هيكل الأرض من أعمق جذورها ودعائمها، ويصدع أديم السماء «أنها حية يقظة متحفزة ناهضة.»
أجابت مصر على المذكرة الإيضاحية بذلك الجواب المفحم الحاسم - أعني بما كانت أعلنته قبل ذلك على لسان جماعة الكونتننتال حين شعرت بما أضمره لها الإنكليز من الشر وسوء النية - أجابت بذلك القرار الذي كان الموحي به في الحقيقة هو روح مصر المنبثة في فضائها، الطائفة في جوها، المرفوفة على مضاجع أهليها وعلى سوامرهم وأنديتهم، الحائمة على مهود أطفالها وأكنان عجائزها وشيوخها - على الأجنة في بطون أمهاتها وعلى الأموات في بطون أجداثها - الحدبة العطوف على أمانيها وآمالها، الحذرة القلقة المشفقة على ماضيها ومستقبلها.
Неизвестная страница