يملأ الدلو إلى عقد الكرب •••
كادوا وكدت فأزهقت ما دبروا
إحدى هناتك أيما إزهاق
إن السر في نجاح خطة ثروت - بفضل قوة تأثيره وإقناعه في خطبه وأحاديثه - هو ارتكاز كلامه على أساس الحقائق الثابتة، ولا مراء في أنه ما كان للرئيس الجليل، ولا لأي خطيب أو مناظر كائنا من كان، أن يبلغ ما يريده من التأثير في معارضيه وإقناعهم بمجرد الملكات الكلامية، ما لم تستقر في جوف كلامه حقيقة صلبة مادية، وقياسا على هذا نقول: إن ثروت باشا خطيب عظيم؛ لأنه يرمي في أثناء خطبه بالحقيقة تلو الحقيقة، أو كما يقول أهل المجاز لأنه يصيب المحز ويطبق المفصل، ويقرطس الفرض، ويصمي كبد الحقيقة، وله بعد ذلك ما يسمونه ملكة التعميم - أي استخلاص الكليات من الجزئيات والقواعد من المفردات - فهو يستنتج أثناء كلامه المنسجم الفياض القاعدة والقانون، ينير به جو المناقشة، ويجلي به ظلمة الشك والشبهة في أوجز اختصار، وأسرع إيماء كأنه لمحة البرق في غاشيات الضباب:
كم حومة للجدال فرجها
والقوم عجم في مثلها خرس
شك حشاها بخطبة عنن
كأنها منه طعنة خلس
ثروت باشا هو الرجل الذي يشتمل على الحقائق الخطيرة، ويعرف كيف يلقي بها في روع المخاطب ويقذفها في جنانه - يعرف كيف ينقلها إلى وجدان المخاطب سواء أشاء المخاطب أم لم يشأ - ويحمله على الاقتناع بصحتها والاعتقاد بها بالكره منه وعلى رغم أنفه، وكم من رجل يشتمل من الحقائق الخطيرة على مثل ما يشتمل عليه ثروت باشا، ولكنه يعجز عن نقلها إلى قلوب معارضيه وعن حملهم على الاعتقاد بها! وإنما ميزة الرئيس الجليل أنه يعرف كيف يهتدي إلى ذلك المسلك السري، والمنفذ الخفي الذي يوصله إلى كل قلب مغلق، وجنان موصد من أفئدة معارضيه ومناوئيه، وكل معارض في حقيقة من الحقائق، مكذب بها، مغلق دونها باب قلبه، مهما حاول الفصحاء والبلغاء إيلاجها في ذهنه، وإقرارها في ضميره بمختلف أساليب البيان وشتى وسائل الفصاحة. فاعلم أنه يوجد في أسرار البلاغة أسلوب إذا وضعت فيه تلك الحقيقة كان كفيلا أن ينفذ بها إلى فؤاد ذلك المنكر المكذب مهما تحصن دونها بأكثف مجان الجحود وأصفق دروع المعارضة. نعم، قد يتاح لهذا المنكر المعارض ذلك البليغ المقتدر، فيصب له تلك الحقيقة المكذبة المرفوضة في قالب عجيب غريب مخالف لآلاف الصيغ والقوالب التي اعتاد أن يسمعها عليها - فيكون لهذا القالب من القوة والنفوذ ما يخترق به حجاب سمعه وقلبه، ويفضي إلى أعماق جنانه فيضع ثمة تلك الحقيقة، ويضرب هنالك أوتادها وأطنابها فترسو، وتستقر على عرش فؤاده عقيدة راسخة مكينة عظيمة النفوذ والسلطان. فإذا ارتاح ضميره إلى الخضوع لسلطان هذه الحقيقة سلم وعاش، وإذا كره بعد كل ذلك أن يخضع لسلطانها لم يغنه ذلك ولم ينفعه بل ستراه يموت من دون ذلك كمدا. فإن حكم هذه الحقيقة بعد تمكنها من عقيدته سيكون نافذا قاهرا محتوما؛ فإما أن يخضع لها فتكون حاكمته ومالكته، وإما أن يأبى الخضوع فيموت بها؛ داءه القتال ومنيته العاجلة. فهذا بلا شك أروع أساليب البلاغة وأمضى أسلحتها، والذي يعالج بمثل هذا الأسلوب، ويكافح بمثل هذا السلاح، لا يملك أن يؤمن بدولة البيان وسلطان البلاغة، ويردد قول نبينا - عليه السلام: «إن من البيان لسحرا.»
ولا تنس ما امتاز به الرئيس من حميا الإخلاص، ولهيب الحمية الذي هو أصل الحياة، ومنبع الروح والقوة في أحاديثه وخطبه، وهذا مستمد من مصدرين: (1) غيرته ووطنيته الغريزية، (2) الظروف الراهنة الاستثنائية. فإن الظروف - كما لا يخفى - تكون أحيانا بمثابة منبع قوة جديد يضاعف ما بالإنسان من قدرة وهمة. ومتى اجتمعت قوة الظروف وكفاءة المرء فذلك اجتماع العقل البشري والقضاء الإلهي. وقد أرى إخلاص ثروت باشا لفرط حميته أشبه شيء بالنشوة قد تملكت شعوره، واشتملت على لبه؛ فهو يكاد يترنح وطنية وغيرة، وإذا أراد الكلام ازدحمت سيول البلاغة في صدره، ثم انطلقت تتدفق دفعا فدفعا، وتراه قد تملكه موضوع الخطابة أو الحديث - أعني موضوع القضية المقدسة - تملكا يترك الأفكار والمعاني تنسجم في نظام هو - نظام الطبيعة ذاتها - أقوى النظم البيانية، وأروع الأساليب التعبيرية، وأجل وأعظم من أن يجارى أو يبارى. فلا جرم إذا قلنا إن ثروت باشا إذا خطب فإنما الطبيعة تخطب بلسانه، وإذا فاضت أحاديثه فإنما هي الحقيقة تفيض من معين قلبه ووجدانه. فلا عجب إذا كان تأثيرها في النفوس تاما، وسلطانها على الأذهان والأرواح كاملا، شأن الطبيعة في كل حركاتها وآثارها، وعلى اختلاف صورها ومظاهرها، وإني لأرى بعد في هذا الإخلاص الرائع الشديد، وفي عظيم ما ينتج عنه من خطب الرئيس الجليل وأحاديثه الباهرة، مصداقا على تلك الخرافة القديمة وهي: «إنما يصيب الغرض من السهام ما يغمس أولا في دم الرامي.»
Неизвестная страница