أما خطة التشاؤم والتطير فلا أرى لها البتة مسوغا ولا مبررا - ولا سيما في حالتنا الراهنة التي ليس فيها ما يدعو إلى التشاؤم أو يبعث على الخوف والفزع كما بينا وأوضحنا فيما سلف - فقد اتضح أنه ليس لفريق المعارضة المتشائمة من علة أو حجة على ما لا يألون جهدهم في نشره وترويجه - من الإشاعات والأراجيف والريب والتهم وسيئات الظنون بالمخلصين الغيورين من جلة رجال هذا البلد وفحوله، وصفوة ثقاته ودهاته - إلا آفة الغرض والهوى، وقد ما أدرك الناس أن المرء إذا أسلم زمام إرادته لقائد الغرض، وألقى عنان مشيئته في قبضة الهوى فقد نبذ طاعة الحق، وخرج عليه فليس تغني معه محاجة ولا مناظرة، ولا يفلح في إقناعه وإفحامه الحجة الناصعة والبرهان القاطع.
لذلك تراه إذا أراد نشر أباطيله وترويج أضاليله انصرف عن مجالات أهل الرأي والحجى، ودوائر ذوي اللب والنهى من النافذي البصر، الثاقبي الفطنة والذكاء الذين يصولون بأمضى سلاح من المنطق والقياس، ويكشفون دياجير الإشكال والإلباس بأسطع سراج من الدليل المشرق وأبهر نبراس. فتحول عن هؤلاء إلى جماهير العامة والنساء والصبيان الذين قد يسهل عليه إقناعهم، لا بأساليب المنطق والقياس، ولكن بقوة التأثير على العواطف والإحساسات (كما أوضحنا ذلك بإسهاب فيما سبق من فصول هذا السفر) بل بقوة التكرار والإلحاح، وشدة الإصرار والعناد حتى يخبل أذهان من يتسلط عليه من البسطاء الذين يصبحون لفرط تأثير هذا التسلط يتهمون عقولهم - بل يتهمون حواسهم - ويغالطون أنفسهم عن الحقائق الناصعة الساطعة، ويخدعونها عن الشاهد الناطق والواقع الملموس.
وهنا يجدر بي أن أورد فكاهة قصصية أراها أصدق مثل يضرب لتمثيل هذه الحالة الأليمة:
جاء في الأساطير القديمة أن برهميا تقيا، نذر للآلهة نذرا أن يضحي بشاة في يوم محدود، ثم خرج في ذلك اليوم ليشتري شاة وفاء بنذره، وكان في جواره ثلاثة رجال قد عرفوا شأن هذا الناسك وما كان قد نذر للآلهة، فرأوا في ذلك فرصة انتفاع لم يحبوا أن تفلت من أيديهم، فانبرى له أحدهم فخاطبه قائلا: «أيها البرهمي، أذاهب أنت لابتياع شاة تضحيها؟»
قال البرهمي: «أي وربي، ما خرجت اليوم إلا لهذا الغرض.» فحينذاك فتح الرجل جرابا كان يتأبطه واستخرج منه حيوانا مشوها - كلبا ضريرا أعرج - فصاح به البرهمي: «ويلك يا خبيث يا من يدنس كفه بلمس المقاذر ولسانه بافتراء الأكاذيب! أتسمي هذا الكلب النجس شاة؟» فأجابه الرجل بمنتهى الجرأة والثبات: «أي والله، ومن أكرم صنوف الغنم - من أنعمها صوفا وأطيبها لحما - أيها البرهمي، اغتنم ما ساقه إليك الحظ من هذه الهدية النفيسة، وأسرع بتضحيتها تكسب بها أحسن الأجر والثواب من الآلهة.» فقال البرهمي: «هدانا الله وإياك يا رجل، لا بد أن يكون أحدنا قد أصيب بالعمى.»
في هذه اللحظة قدم عليهما ثاني الثلاثة المتآمرين، فصاح كالفرح الجذلان: «لله مزيد الحمد والشكر، هذه شاة من أكرم الغنم، لقد كفيت مئونة الذهاب إلى السوق ومشقة مزاحمة الناس هنالك، بكم تبيع هذه الشاة يا رجل؟» فلما سمع البرهمي ذلك الكلام أخذه دوار في رأسه، وهفا ذهنه على أرجوحة الشك يعلو ويهبط، ولعبت به موجة قلقة من الحيرة تطفو به وترسب، فخاطب القادم الجديد قائلا: «مهلا يا هذا وتدبر ما تقول وما تزعم، هذه ليست بشاة ولكن كلبا دنسا مشوها.» فأجاب القادم الجديد بقوله: «ويحك أيها البرهمي، ما أحسبك إلا سكران أو مجنونا.»
في هذه الآونة دلف إليهم ثالث المتآمرين، فقال البرهمي: «إذن فلنحكم هذا القادم في الأمر، وقد عاهدت الله أن أقبل حكمه.» فوافقه الرجلان على ذلك، ونادى البرهمي الرجل القادم: «خبرنا يا أخي، ماذا تسمي هذا الحيوان؟» فأجابه الرجل بقوله: «أيها البرهمي، هذه بلا أدنى شك شاة مليحة.» فقال البرهمي: «لا ريب أن الآلهة قد سلبتني حواسي.» ثم اعتذر إلى صاحب الكلب واستسمحه واشترى منه الحيوان القذر بثمن جيد وضحاه للآلهة فاستغضبها فرمته بداء خبيث في مفاصله.
هذه فكاهة واضحة الغرض، بينة المغزى، تشير إلى مبلغ تسلط ذوي الغايات في كل زمان ومكان على عقول البسطاء بمحض الكلام والإغراء والمغالطة، ولعلها أصدق مثل ينعت ما نكابده الآن من تأثير المعارضة المتشائمة على العامة والنساء والصبيان، وزجهم في متائه التضليل، والتغرير بما يروجون بينهم من الإشاعات والأراجيف مع شدة ظهور بطلانها، وفرط وضوح زورها، ومنافاتها للواقع الملموس، ولكن ذوي الغايات والأغراض لن يعدموا في كل آن ومكان من جمهور الناس من يستطيعون خدعه عن الحقائق المدهشة المحسوسة حتى يحملوه على الاعتقاد بعكس ما تعرضه عليه عينه وأذنه، وبضد ما يكيفه له ذوقه ولمسه تكذيبا لوحي شعوره وشاهد حسه، حتى تراه يسمي التمر جمرا والفجر عصرا، ويحلف لك أن العسل مر بالرغم من حلاوته في فمه، وأن الطيب نتن مع عبق أريجه في شمه، وأن الغزال فيل على الرغم من غيده وحوره، وأن الكلب شاة وإن عرف نفسه للأبله بنباحه وضموره.
ولكن الحق أبلج والباطل لجلج، والأكاذيب في هذه الحياة محكوم عليها بالفشل في النهاية مهما نجحت مؤقتا وبالكساد مهما راجت حينا، وهي - كما نوهنا سابقا - مكتوب عليها الحكم بالإعدام في صحيفة الأقدار وسجل الأزل مهما تراخت مدتها وطال أجلها.
وما دامت وزارة ثروت باشا لا تبرح - كما نراها الآن - تقدم للأمة في كل يوم وليلة دليلا صادقا على تنفيذ خططها وبرامجها، وعلى المسير بالبلاد نحو بغيتها وغايتها، وما دمنا نرى رئيسها الجليل ثروت لا يزال يسوق من ناصع الأدلة على شدة إخلاصه للوطن، وفرط غيرته على مجده، وحسن عطفه على أهليه، وإدمانه السعي الحثيث في تقريبه من أمله وإدنائه من أمانيه يقطع بذلك النهار جهادا، والليل سهادا. أقول: ما دمنا نرى بطل النهضة الحالية ثروت باشا لا ينفك يزلف إلى أبناء وطنه من بينات الآيات على بعد همته، ومضاء عزمته، وعظم بطولته ما يجعله خليقا بقول الطائي:
Неизвестная страница