وجدير بالناس أن يذكروا هذه القاعدة الخطيرة، وهي أن الانقلابات السياسية لا تستلزم إلغاء النواميس الجارية والدساتير السائدة، ولا تستدعي هدم الكائن من نظم وتقاليد، وإيقاف سير ما هو نافذ من أحكام ولوائح فتصبح البلاد فوضى، لا نظام ولا قانون إلى أن يتم إنشاء البرلمان الجديد، ويبنى عليه أساس الحكم في البلاد. فهذا مناقض لسنة العمران في العالم، ناقض لأسباب النظام والأمن والسلام، وهو ما لا يكون ولا يمكن أن يكون أو يتأتى بحال من الأحوال، وها هي الشواهد التاريخية تدلنا على أن الأمم التي هبت من قبلنا تطالب بحريتها قد أصدرت يوم استقلالها أوامر بإبقاء أحكامها العسكرية نافذة توثيقا لأسباب الأمن، وتوطيدا لدعائم السلام، وتوخيا لتنسيق أركان الحكم الجديد تحت لواء النظام.
جدير بكل فرد من أفراد الشعب أن يفطن تمام الفطنة إلى حقيقة موقف الأمة، ودقة مركز الحكومة، وضيق مأزقها، ووعورة مسلكها، وما يعترضها في كل خطوة من المصاعب والمشاكل، فيعطف عليها بكل ما أوتي من عواطف البر والكرم والمروءة، ويسلك معها سبيل المصابرة والتمهل لينظر ما سوف تصنع، وما عساها أن تأتي وتذر وتحل وتعقد، حتى لا يرمى بالتعجل في الحكم، وإبراز الرأي فجا غير ناضج.
نحن اليوم إزاء مشكلة من أعوص المشاكل لا يتأتى حلها بسوى التعقل والروية والتبصر، وذلك ما لا يتسنى إلا في جو صاف من الهدوء والسكينة تسود فيه الأناة والتؤدة، ويشرق في أفقه سراج العقل المتبصر المتدبر؛ وأساس كل ذلك هو كما ألمعنا في موضع سالف هدوء الخواطر وسكون الجوانح، وثبات الجأش، والجنوح إلى الرفق واللين والهوادة والحسنى، وتوخي أسباب الحلم والمجاملة والرقة في الخطاب، وأساليب الأدب والملاطفة والدماثة في مجال المناقشة والمناظرة شأن أفراد الأمم المهذبة الراقية التي يحق لها أن تفخر بسمو مكانها في درج المدنية والحضارة.
إن المشاغبات والمشاحنات، واستثارة العداوات، وبذر الشقاق ما كانت قط لتؤدي إلى خير، ولا لتتقدم بأمة خطوة نحو غايتها المنشودة، ولا سيما إذا كانت أمة في مثل مركزنا السياسي قد وضعت قدمها على فاتحة سبيل الأعمال، والمجهودات العظيمة للوصول إلى ما تبتغيه من أقصى غايات الاستقلال التام.
نحن الآن أحوج ما نكون إلى العمل - إلى العمل المنتج المثمر - إلى عمل البناء والتعمير أو التشييد والتجديد. نحن الآن أحوج ما نكون إلى تنظيم حركتنا، وتنسيق نهضتنا، بضم شواردها وجمع شتاتها ولم شعثها، وتسييرها في منهج قاصد قويم يسود في جوه العقل والنظام والحكمة والتدبير.
لقد انتهت حركتنا من دورها العاصف العنيف، وجرت شأوها المحتدم المضطرم، وأدت ما عليها من مهمة الهدم والنسف والتقويض؛ هدم الحماية، ونسف دعائم الحكم المطلق، وتقويض أركان التدخل الأجنبي. أجل، لقد انتهت حركتنا من دور الهدم والتدمير، وآن لها أن تدخل في دور البناء والتعمير، لقد هدمت برج الحكم الأجنبي ووضعت على أنقاضه أساس الاستقلال، وقد آن لها أن تبذل أقصى الجهد في أن تشيد على هذا الأساس صرح الاستقلال التام.
فكأن حركتنا كانت في دورها الأول العنيف التأثر أشبه شيء بالسيل الجارف المنهمر، المصطدم بالصخور والجلاميد، المتوثب بين العقبات والأوعار، وهي في دورها الحالي الهادئ المطمئن يجب أن تكون مثل هذا السيل حيث ينتهي من الصخور والأوعار، ويفضي إلى أرض سهلة مستوية لكنها قفرة جرداء، فعلى هذا السيل أن ينسكب في فضائها متسلسلا منسجما هينا لينا، ولكنه يكون مع ذلك قويا شديدا، جائشا زخارا يؤدي ما عليه من واجب الري والسقيا، ووظيفة الإخصاب والإنتاج، فيحول الجدب خصبا، والصخر عشبا، ويترك الفلاة الجرداء جنة غناء.
وهذا ما لا يكون ويتم إلا بالألفة والاتحاد، وهما لا يتوافران إلا بحصول الثقة المتبادلة بين عناصر الشعب وأحزابه، ثم بين فئات الشعب كافة وحكومته، والثقة المتبادلة لا تتأتى ما دام سوء الظن متسربا إلى النفوس، ومعلوم أن سوء الظن هو آفة الشعوب، ولا سيما في أدوار انقلاباتها السياسية، وتطوراتها النظامية؛ إذ في مثل هذه الظروف العصيبة تكون النفوس هائجة ثائرة والخواطر مضطربة قلقة، ومتى كانت النفوس والخواطر كذلك أصبحت بيئة صالحة لجراثيم الريبة والتهمة تعشش فيها، وتبيض وتفرخ منتجة الضغائن والأحقاد المؤدية إلى أعظم الشرور والمضار.
لا جدال في أن ما أدركناه من الفوز السياسي الأخير، وما اكتسبته القضية من النجاح والتأييد - بما صارت إليه من المركز الحصين الجديد - لجدير أن يعد من أعظم دواعي الابتهاج والاستبشار، ولا جدال أيضا في أن هذا الابتهاج والاستبشار الذي نراه متفشيا في جانب عظيم من الأمة - ممن عصمهم الله من تأثير ما يروجه المتشائمون من باطل الإشاعات والأراجيف - إذا ازداد تفشيا في مجموع الأمة، وسريانا في أفئدتها وجوانحها كان من أكبر أسباب النجاح، وأعظم وسائل اليسر والتوفيق، وأغزر مصادر الخير والبركة والفلاح. فإنه لا خلاف في أن روح الابتهاج والاستبشار من أقوى بواعث الهمم، ومرهفات العزائم مما نحن بأمس حاجة إليه في موقفنا الحالي لاقتحام ما لا يزال يواجهنا من المصاعب والعقبات، كما أنه ليس أضر بنا في الحالة الراهنة، ولا أفسد لقضيتنا من بث روح التشاؤم المثبطة للهمم، والعزائم الموهنة للمجهودات والمساعي.
وأي شيء - هداك الله - أجلب للخسارة والبوار، وأدعى إلى الفشل والخيبة من هبوط العزيمة وثبوط الهمة؟ وأي شيء أشد إضاعة للحقوق وإفسادا للأمور، وإذهابا للدولة والسلطان، وإبادة للمجد والحسب مما تحدثه روح التشاؤم والسخط والضجر في الأمم والشعوب من خور القوى، ووهن الإرادة الداعيان إلى داء التخاذل والتواكل والفتور والتواني؟
Неизвестная страница