حقا، إن المعارضة إذا خلت من عوامل العواطف الشخصية والشهوات الحزبية، وصحت من سكرة الأثرة والأنانية؛ عز عليها أن تأتي كل ما من شأنه عرقلة المساعي وإضعاف المجهودات وإيذاء القضية، ولكن ماذا تصنع المعارضة وماذا تفعل الوطنية إذا أصابتها الأنانية؟ أليست الأنانية جديرة أن تصم أذن العقل، وتخرس صوت الضمير، وتغشي ناظر الرأي والبصيرة، وتطرح في زوايا الإهمال كل مسألة وقضية إلا مسألة شكايتها الوهمية وظلامتها الخيالية.
وفي هذه الحالة تتوق وتصبو إلى فكرة الانتقام. وقدما قيل إن الانتقام حلو لذيذ عند الإنسان الاعتيادي الحاد العواطف، وكم رأينا وسمعنا عن التضحيات العظيمة تبذل في سبيل الانتقام، ومن أجل تذوق حلاوته واستمراء لذاذته، ولا جرم، فالانتقام هو كما وصفه الروائي الأشهر «السير والتر سكوت»: «أشهى لقمة طبخت في نار جهنم.»
ولا عجب إذا رأينا المعارضة - رغبة في الانتقام - تشن الغارة أثر الغارة، وتصول بجيوش المظاهرات، وتقيم مسرحا عظيما للشغب واللجب والصياح تلعب عليه - أو تتفرج - جماهير العامة والنساء والصبيان مدفوعة بما جبلت عليه تلك الطبقات من حب الهياج والصخب والضوضاء، وبما فطرت عليه من الشغف بمشاهدة ملاعب الصراع والملاكمة مما يثير الشعور، ويولد تلك اللذة الحاصلة من التهاب العواطف واشتعال الشهوات، فضلا عن اللذة المتولدة في المظاهرات من احتكاك الإنسان بالآلاف المؤلفة من الأجسام البشرية، ومن تفرج الإنسان على مثل ذلك العدد من الوجوه الآدمية المختلفة السحن والملامح.
كذلك تحاول المعارضة الأنانية قلب الحقائق ومسخها وتشويهها، وإنكار الواقع الملموس والمشاهد، وطمس مآثر الذين ساقوا لبلادهم الخير والغنيمة، وجحودا لما طوقوا به جيد الوطن من بيض الأيادي، تحاول بذلك شفاء غلة جهنمية، وانتقاما لإساءات وهمية. وقد تفلح وقتا ما في ترويج مذهبها بخلقها جوا من الهياج الوجداني، والانفعال النفساني تلتهب فيه العواطف وتحتدم الشهوات، تبذر في أرجائه بذور أراجيفها، وتذرو في أنحائه لقاح أباطيلها وأضاليلها. ولكن هذه الحال لن تدوم وما هي إلا مؤقتة شأن غيرها من الأكاذيب التي مهما يمتد أجلها فمآلها حتما إلى الزوال والفناء.
وكذلك تلك الأراجيف والأباطيل، وتلك الظنون السيئة بالحكومة الحاضرة، والتهم الكاذبة مما لا تفتأ المعارضة تصوغه وتخترعه - مهما صادفت من الرواج في هذا الدور الأول من العهد الجديد بسبب ما يسود في أذهان بعض الطبقات من عوامل الحيرة والارتباك المثيرة للريب والشكوك من تأثير صدمة هذا الانقلاب السياسي الخطير؛ فهي لا بد أن تأخذ في التناقص والهبوط والكساد، ثم يئول أمرها إلى الاضمحلال والزوال على مر الأيام متى تتابع على أبصار تلك الطبقات من مزيد الشواهد والآيات، وتوالى على بصائرها من جديد الحجج والبينات ما يمحو من أذهانهم ذلك الخلط والارتباك والحيرة، ويبرز لأبصارهم الموقف الجديد ومعالمه، وحدوده وخصائصه ومزاياه في أجلى مظهر من الحق الصراح.
ولكن حركة القضية نحو النجاح، وسير البلاد إلى الغاية المنشودة من الرقي والفلاح دائبة مستمرة، لا تنتظر ذلك اليوم الذي يسطع فيه نور الحقيقة على أبصار المضللين من مفتوني المعارضة. لقد نهضت الطبيعة بنفسها فقبضت على زمام القضية بيدها القوية تدفعها في سبيل التقدم، فمن ذا الذي يقوم في وجه الطبيعة يردها عن قصدها وغايتها؟ وأي قوة بشرية تستطيع للطبيعة دفعا أو مقاومة؟ أو ليس إذا هبت على شيء ما ريح المدد والمعونة من جانب عرش الله أصبحت أقوال المعارضين في هذه الريح الشديدة هباء، وذهبت أراجيف المعاكسين في نفحاتها جفاء؟
هذا بحر السياسة العجاج قد لان جانبه، وسكنت غواربه، وسلس قياده، واطمأن مهاده، وقد سربت فيه الفلك، وانسابت تمخر إلى الأمام عبابه، وتشق إلى مرادها جلبابه، تزجيها ريح السلام ويهديها كوكب اليمن والتوفيق. فلترعد المعارضة ولتبرق، فما شيء من ذلك الصخب والضجيج بضائر الفلك في مجراها، أو صارفها عن قصدها ومبتغاها.
لقد ولجت البلاد باب الحرية سواء اعترفت بذلك المعارضة أم لم تعترف، وقد ملكت البلاد فوهة سبيل الاستقلال سواء شاءت المعارضة أن تصدق ذلك أم لم تشأ، وقد انبرت البلاد تجتاز تلك السبيل آمنت بذلك المعارضة أم لم تؤمن.
لقد اعترف بإلغاء الحماية، وباستقلال البلاد في الداخل والخارج، وأمنت على ذلك دول العالم، وتواردت به التهاني من ملوك الأرض، وقد زال العهد القديم واندثر، وطواه الدهر فيما لا يزل يطويه كل لحظة من هالكات هذا العالم وفانياته، فلن يرجع هذا العهد حتى يرجع أمس الدابر:
وحتى يئوب القارظان كلاهما
Неизвестная страница