يقول الفريق المتشائم إن بريطانيا تضمر لنا في سريرتها خفايا وتكن لنا دفائن وخبايا. فهب ذلك من الجائز، فلماذا لا ننتفع بالثمرة الواقعة، ثم نحذر المضرة المتوقعة؟ وهل يجوز في عقل أن ترفض الوردة من يد مهديها مخافة أن يهديك الشوكة يوما ما؟ أو ترد الكأس الروية إلى كف مديرها وساقيها خشية أن يدير عليك فيما بعد حنظلا وعلقما؟ أليس قياسا على هذا يحق لنا أن نرفض سواكب الغيث من السماء لما يحتمل من إرسالها للصواعق علينا يوما ما؟ وأن نغمض أبصارنا في وجه الأفق رافضين أشعة الشمس الضاحكة لما يتوقع يوما ما من عبوسه لنا بظلمة الضباب والغيم؟ فماذا تكون حال أبناء البشر إذا ساد في الأرض هذا المذهب، وتغلبت هذه الشريعة؟ وأي حياة يحيون؟ وكيف تدار دواليب الأعمال؟ وكيف يتقدم ركب الإنسانية في سبل الرقي إلى أمد الكمال؟
هبونا لم ندرك الغاية، فأي الحالتين أشرف وأمجد؟ وأي الموقفين أقوى وأمنع؟ وأي المركزين أدنى من أمل وأكفل بنجاح؟ دخولنا المفاوضات الآتية أحرارا مستقلين، أم دخولنا إياها تحت نير الحكم الأجنبي وفي قيود الحماية؟ أي الأمرين أفضل؟ ذهابنا للتفاوض مطلقين من هذه الأغلال مزودين بسلاح الاستقلال (ولو مثلوما مفلولا)، أم ذهابنا عزلا من السلاح كشفا من الدروع مكتوفين بأصفاد الحماية؟ ثم ماذا غرمنا بعد وماذا خسرنا؟ وماذا أضعنا بقبولنا ما نزلت عنه إنكلترا وما صرحت به من هذا الإلماء وهذا الاعتراف؟ هل بذلنا في سبيل ذلك شيئا من حقوقنا أو تخلينا عن شيء من مطالبنا؟ هل أعطينا بريطانيا في مقابل هذا العربون الجسيم ثمنا؟ هل سمحنا لها أن تأخذ علينا أدنى تعهد أو تقيد؟ كلنا يعرف الجواب على ذلك؛ كلا.
وبعد؛ فهل نسيتم أو غاب عنكم أن ما تحقرونه اليوم - بل تنقمون عليه من ذلك التصريح المتضمن إلغاء الحماية والاعتراف بالاستقلال - قد كان يوما ما أقصى ما تطمح إليه أنظاركم يوم كان الوفد المصري لا يتمنى على بريطانيا - عند بدء دخوله المفاوضات معها - أمنية أجل وأعظم من مجرد إعطائها إياه وعدا بأن يكون إلغاء الحماية ضمن ما تعترف به لمصر أثناء المفاوضة؟ في ذلك اليوم (وليس العهد ببعيد) لم يكن الوفد المصري - ولا أي مصري كائنا من كان - يحلم أن في استطاعة الأقدار أن تستخلص من بريطانيا العظمى غنيمة «إلغاء الحماية والاعتراف بالاستقلال» - مبدئيا وقبل التفاوض - كعربون بلا ثمن، وكأداة تمهيد وتوطئة للمفاوضات المقبلة.
أنسيتم يوم كنا نشرئب بأعناقنا التي قطعها الظمأ ، ونتطاول بأبصارنا التي أرمدها السهاد - إذ نحن في مضال الحيرة وقفار اليأس - إلى ذلك المنهل العذب (منهل الحرية) الذي كان ممنوعا منا بأسوار الحماية المسلحة وأسلاكها الشائكة، وقد أذبل العطش أسلات ألسنتنا يوم كنا نتوق ونتلهف على رشفة من زلال ذاك المنهل الشبم؟ أم نسيتم ونحن في دياجير القنوط كيف كنا نتشوف إلى شعاع من ذلك السراج المنير - سراج الحرية الذي كان يطمس سناه ضباب الحماية وأدجانها المتراكمة الكثيفة - فها نحن أولاء نسير في وضح السراج المنير، وننقع الغليل بماء الحرية النمير. فما معنى هذا التسخط والتذمر؟ وماذا تريدون بهذا التأفف والتضجر؟ وما هذا القال والقيل، والصراخ والعويل، والتغرير بأبناء البلاد والتضليل؟
فخبرونا - بعيشكم - ماذا كنتم فاعلين لو أن هذا التصريح العظيم «بإلغاء الحماية والاعتراف بالاستقلال» جاءكم في ظروف أخرى، وعلى أيدي آخرين (يوم كنتم لا تحدثون به أنفسكم ولا في الأحلام - يوم كنتم تعدون ما هو دونه بكثير منة عظمى ونعمة جلى - يوم كانت أقصى أمانيكم أن يكون هذا الإلغاء وعدا موعودا لا ثمرة حاصلة) - ماذا كنتم فاعلين إذ ذاك؟ أهناك أدنى شك في أنكم كنتم تملئون الأرض والسماء تكبيرا وتهليلا ونشيدا وترتيلا، وتحرقون البخور في المجامر إقامة لشعائر التقديس للذين ساقوا إليكم المغنم العظيم، وتأدية لمناسك العبادة للآلهة الذين غمروكم بالفيض العميم؟ أما كنتم تقيمون الصلوات في المحراب لأولئك الأرباب؟ أما كنتم تهزون أعواد المنابر إعلانا لمفاخر أولئك الأكابر؟ أما كنتم تنحرون النحائر، وتدقون البشائر، وتوقدون الشموع، وتزينون الربوع؟ أما كنتم تقطعون الحناجر، وتمزقون الرئات بالهتاف حتى تصبحون خرسا، لا تطيقون الكلام إلا همسا ونبسا؟ أما كنتم تمثلون في عرصات القاهرة رواية البعث والنشور؛ إذ تحشرون قبائل وشعوبا في صعيد واحد، متزاحمين متدافعين، متكدسين أكداسا مشتبكة متلاحمة، جبلا هائلا من الإنسانية الهائجة المائجة، وصرحا ممردا من الجماجم ليس فيه أدنى ثلمة ولا فرجة:
فلو حصبتكم بالسماء سحابة
لظل عليكم حصبها يتدحرج
ثم تخلعون كل عذار، وتندفعون في كل تيار مطلقي طوفان الغرائز الحيوانية من محابس التؤدة والرزانة، مرسلي سيول النزعات الشهوانية من قيود الورع والرصانة، سامحين لعنصر التراب والحمأ المسنون فيكم أن يتغلب على عنصر الروح الإلهي والنور السماوي، كأنكم كتلة جسيمة من الفوضى، يظل من يبصر فرط اضطرابها وتشوشها واختلاطها لا يكاد يصدق أن في استطاعة القدرة التي خلقت نظام العالم العجيب من عالم السديم المشوش أن ترد هذا البركان المتطاير الحمم والشظايا، وهذه الزوبعة المستطيرة الشرر والصواعق، وهذا الزلزال البادي في أشنع صور التخريب الذهني والتدمير الروحاني إلى سيرته الأولى من الحياة الهادئة المنظمة، وصورته المعهودة من مظاهر الإنسانية المهذبة.
وبالاختصار، أما كنتم تجددون عهد ذلك اليوم المعروف 5 أبريل 1921، الذي يسجل على ترمومتر الحياة الاجتماعية أعلى درجة لحيوانية الإنسان وأخفض درجة لروحانيته، ويقدم أصدق مثل تاريخي على تأصل طباع آباء البشر - ساكني الكهوف وقانصي الوحش - في نفوس أبنائهم مهما قدم العهد وتطاول الأمد؟
أجل، لقد كنتم تفعلون ذلك وفوق ذلك لو أن غنيمة هذا التصريح - بإلغاء الحماية والاعتراف بالاستقلال التام - جاءتكم في ظروف أخرى وعلى أيدي آخرين. فما بالكم اليوم لا تصنعون عشر معشار ما كنتم صانعيه إذ ذاك؟ بل ما بالكم لا تكتفون بمجرد إظهار الارتياح والانشراح، بل بمجرد السكينة والثبات، بل بلزوم سنة الصبر الجميل حتى تروا عواقب هذه البوادر، ونتائج هذه البشائر. فإن لم يكن هذا ولا ذاك فأمامكم مجال المعارضة الشريفة في صفاء جو الهدوء والحلم اللذين تقتضيهما سنن الجدال وقوانين المناقشة، رابئين بنفوسكم عن مواقف التغرير بالشعب والتضليل، وعن خبث مواطن الإرجاف والتهويل، وعن سفال مساف التشنيع بالوزارة الدستورية الساعية إلى خير الأمة، الممثلة لأمانيها، الباذلة أقصى الجهد في تنفيذ رغباتها، وعن خسة مهابط الانتقاص منها والنيل من كرامتها، وتوجيه كاذب التهم نحوها، وترويج سوء الظن بها مما يفسد أذهان الشعب - الذي تدعون أنكم قادته وأبطاله الذائدون عن حياضه - ويسمم عقيدته، ويضل رأيه، ويطمس على نور بصيرته. ما بالكم تحاولون - بإخماد جذوات الأمل في النفوس وإبدالها ظلمة اليأس - تثبيط الهمم وفل العزائم، وإقعاد الأمة عن مواصلة السعي في سبيل الجهاد، أو تحويل ذلك السعي في شر السبل وأشدها وبالا - أعني سبيل المشاحنات الحزبية، والمطاحنات الفرقية، وتقاطع الأرحام والصلات، وتدابر الخلان والثقات - ذلك السبيل الذي طالما أغريتم الناس بسلوكه فلم تجدوه يؤدي بقضية البلاد إلا إلى شر غايات الفشل، وأحرج مضايق الكرب، وأوخم مراتع الخيبة كما قد شاهدتم أن نذير الخطر كلما كان يصيح بالشعب محذرا الاسترسال في ذلك السبيل - سبيل التنابذ الممقوت - والإمعان في شعابه، داعيا إلى الرجعة لسبيل التضامن والاتحاد فيطيعه الشعب جامعا كلمته، حاشدا صفوفه، أدبر الشر والطلاح، وأقبل الخير والفلاح، وأبرمت روح الاتحاد من أسباب القضية ما كانت آفة التفرقة قد نكثت ونقضت، ووثقت عزة التضافر من أركانها ما كانت ذلة التخاذل قد هدمت وقوضت، فأشرق نجمها بعد أفول، وأورق عودها بعد ذبول. نقول: لقد جربتم هذا وذاك، ولقيتم من الخطتين النعمة والمصاب، وذقتم من الكأسين الشهد والصاب، فهل انتفعتم بتجارب الزمن، وحنكتكم تقلبات الدهر بين نعم ومحن؟ وهل فقهتكم الصروف، وفطنتكم تلونات الظروف؟ وهل سبكتكم نيران الكوارث في بوتقة التمحيص والتهذيب، وقومتكم أيدي الحوادث بثقاف الإصلاح والتأديب؟ أم وجدتكم هذه القوى والعوامل بمنعزل عن ندائها وبمنقطع عن صوت دعائها، فكانت إنما تحاول في هدايتكم تحريك الجبال، وتسكين الزلزال، وضبط هوجاء الرياح، وإسكات العارض السحاح، وكأن موقع وحيها وتعاليمها من قلوبكم موقع الرقم على صفحة الماء، والنقش في أديم الهواء، وكذلك لم تجد هذه المؤدبات الإلهية والمهذبات الطبيعية من بينكم إلا كل نافر شرود؟
Неизвестная страница