هذا فريق التفاؤل والتيمن الذي هو في الحقيقة أقرب من غيره إلى الصواب والمعقول؛ لأن جميع ما يحيط بالمسألة من شواهد الظروف وقرائن الأحوال تصدق رأيهم وتؤيد حجتهم، وثمة فريق آخر يناقض الفريق الأول في رأيه ومذهبه، فهو لا يثق ببريطانيا على الإطلاق، بل يفضل ترك الحالة معلقة - حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا - على قبول ما هو معروض الآن على مصر؛ محتجا لمذهبه هذا بأن الإنكليز ما برحوا منذ بدء احتلالهم هذا القطر يمنون أهله بأباطيل المواعيد وأضاليل الأماني، فإذا استسلمنا إلى وعودهم هذه المرة أيضا فقد تضعف العزائم، وتتخدر الأعصاب، ويتأخر سير القضية إلى غرضها الأسمى، ومرادها الأقصى، وفي هذا البلاء والشر كله.
ونحن نعترض على هذا الفريق ومذهبه بأن إنكلترا اليوم ليست بإنكلترا الأمس؛ لقد علمتها الحوادث والخطوب أن أمم الشرق وشعوبه الواقعة تحت سيطرتها ليست بالرمم البالية المقبورة في مدافن الدثور والعفاء، ولا هي بالخشب المسندة الملقاة في زوايا الإهمال والنسيان رهائن العجز والتبلد والخمود والجمود. لقد كانت إنكلترا تحسب أن الأمة المصرية وسائر أمم الشرق لم تشارك الشعوب الغربية المهضومة فيما أحدثته الحرب الكبرى في صميم كيانها من تلك الثورة الفكرية، والغليان السياسي الذي استحث حركتها العادية وسيرها المألوف في سبيل الرقي الطبيعي التدريجي نحو الغاية المحتوم عليها بلوغها - ولو ببطء وتريث وبعد تعطيلات العقبات والعراقيل - بحكم السنن الكونية والنواميس الطبيعية. فإنكلترا بالرغم من اعترافها للشعوب الغربية الصغرى بما أحدثته فيها الحرب الكبرى من الثورة الفكرية السياسية، وبالرغم من إذعانها لحكم هذه الثورة - أعني لحكم السنن الكونية والنواميس الطبيعية - تغافلت عن مصر في بادئ الأمر وتعامت، ولم تحسب لها حسابا في باب النهوض والتحفز، فلم تلق لمصر بدلو يوم ألقت الشعوب الغربية بدلائها في مناهل المؤتمرات، ولا أجالت لمصر قدحا ولا سهما يوم أجالت الشعوب الغربية سهامها وقداحها في قرعة السياسة على موائد المقامرة الدولية، لم تطرح إنكلترا مسألة مصر - ولا سمحت لمصر أن تطرحها بنفسها - في ميزان التسوية يوم طرحت مسائل الأمم الغربية في ذلك القسطاس الحكيم.
فماذا كانت النتيجة والعاقبة؟ نتيجة الغفلة والتفريط وعاقبة من لا يحسب للأمر حسابه ولا يتدبر عواقبه - كانت النتيجة مفاجأة الغافل المغتر بما لا يتوقع من الخطب الجسيم والحادث الجلل الذي ما برح يختمر ويتكون - أيام غفلته وغروره - في طي الخفاء حتى ظهر له حين انقشاع عمايته، وانجلاء غمرته بارزا جهيرا شنيعا بشعا جهما متنكرا يحملق إليه بعين الحقيقة المستعرة جمرا وشررا.
كانت النتيجة استيقاظ بريطانيا من رقدتها الطويلة بلطمة قاسية من كف الحقيقة المرة الأليمة حين استوفت هذه الحقيقة نموها واستكملت نضجها، ودرجت من منشئها ومرباها إلى ميدان العالم ومعترك الحياة؛ لتؤثر أثرها، وتؤدي وظيفتها.
كانت النتيجة أن مصر المهضومة المستضعفة - التي لم تحسب بريطانيا حسابها ولم تأخذ منها حذرها - ثارت ثورتها المعروفة في مارس 1919، وهبت في وجه بريطانيا هبة الأسد المسلسل صدع قيوده وأغلاله ووثب يطالب المغتصب بحقوقه المهضومة المسلوبة.
عند ذلك أفاقت بريطانيا لأول مرة من غفلتها بالنسبة للمسألة المصرية، وصحت من سكرتها، وأقبلت على القضية المصرية تتأملها بعين الحذر والاهتمام المشوب بشيء من الخشية والرهبة، ولا جرم، فلقد راعها من عجيب تطور الأمة المصرية، وعظيم نهضتها وطفرتها ما راع «أهل الكهف» إذ هبوا من رقادهم، فهالهم ما هالهم من تغير حال الدنيا وتبدل الشئون والمشاهد، وكان بعد ذلك ما كان من محاولة بريطانيا المرة بعد المرة تسوية القضية المصرية بوسائل شتى؛ إحداها «لجنة ملنر» التي فشلت في مهمتها بفضل إجماع المصريين قاطبة، وتوحيد كلمتهم على مقاطعتها أشد مقاطعة وأقصاها، حتى أوصدوا في وجهها كل باب للمناقشة والمفاوضة، بل قطعوا منها كل أمل في ذلك، وكل هذا تأييدا للوفد المصري الذي كان إذ ذاك وكيل الأمة المفوض ومندوبها الذي لم ترتض سواه مندوبا ووكيلا.
وهنا يجدر بنا أن ننوه بما كان من سلوك ثروت باشا في تلك الآونة الدقيقة، وكيف كان موقفه إزاء لجنة ملنر، وبماذا أشار عليها؟
قابل ثروت باشا في ذلك الحين اللجنة المذكورة منفردا (كما قابلها عدلي باشا منفردا) لا مقابلة راغب في مفاوضتها - حاشا لوطنيته الشماء أن تفعل ذلك - ولكن مقابلة من أحب أن يبلغها جواب الشعب الصريح، واعتقاده الصحيح معبرا عن جنانه، ناطقا بلسانه، فأنبأها بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن الشعب المصري - أن المصريين قاطبة قد أصروا على أن لا يكون لهم مع اللجنة شأن ما، وأن لا يدخلوا معها في مناقشة أو مباحثة؛ ذلك لأن لهم وفدا يمثلهم أصدق تمثيل وأصحه، فهم لا يرضون غيره محاميا عن القضية، ولا يثقون بمفاوض سواه كائنا من كان.
هذه المأثرة الجليلة من مآثر ثروت باشا - الدالة على ما ينطوي عليه فؤاد الرجل الكبير من صدق الوطنية وروح التضحية - أقل ما يؤثر من عظيم مآثره وجسيم مفاخره، وأدنى ما يذكر من مساعيه الجليلة في سبيل خير البلاد وصالحها، ولكنا رأينا أن نوردها هنا تذكرة لمن نسي، وتعريفا لمن لم يعرف. فليعلم الناس أن وطنية ثروت باشا ليست وليدة اليوم ولا بنت الأمس، بل هي عريقة فيه متأصلة منذ أدلى به عالم الخفاء إلى عالم الوجود، منذ:
سله الله للخطوب من الغي
Неизвестная страница