وكان دردسكوت في الواقع يمثل ملايين العبيد، فقضيته قضية الرقيق جميعا، فما يجوز عليه يجوز على كل زنجي في البلاد، ومن هنا جاءت أهميتها، ثم إنها وقعت في وقت كانت تتصارع فيه الآراء والمبادئ وأذهان الناس جميعا متجهة إلى ما عسى أن تفضي إليه معضلة الرق، ولو أن هذه القضية قد جاءت قبل ذلك لما كان لها مثل ما اتفق لها الآن من خطر.
انتقلت القضية من محكمة إلى محكمة حتى وصلت إلى المحكمة العليا للولايات، ويصف دردسكوت موقفه في إحدى المراحل في كتيب تداولته الأيدي، ونقلت عنه الصحف حتى بات حديث البلاد كلها، ومما جاء فيه قوله: «قال القاضي إنني وفق تلك القوانين كنت حرا كمالكي على سواء أثناء أن كنت في إلينوى وفسكنسن، وكان لي أن أجعل من الرجل الأبيض عبدا لي كما يجعلني عبدا له، وشعرت بالأسف لأن أحدا لم يقل لي مثل هذا الكلام وقت أن كنت هناك، وقد استشعرت الفرح إذ حسبت أن القاضي سيهبني الحرية، ولكن القاضي تكلم بعد هنيهة فقال إنه بمجرد أن جاء بي مالكي إلى هذه الناحية من خط اتفاق مسوري ذهب حقي في الحرية، وعدت أنا وأطفالي وأسرتي متاعا من المتاع فحسب! وأحسست القسوة في أن يرسم البيض خطا من صنع أيديهم على سطح الأرض، على جانب منه لا يكون الرجل الزنجي رجلا بأي حال، وأنهم يبقون ذلك سرا فلا يطلعون أي زنجي عليه حتى يعودوا به إلى هذا الجانب من الخط؛ ولذلك لم أجد بدا من الالتجاء إلى المحكمة العليا ... يا إخواني في الإنسانية، هل فيكم من يستطيع مساعدتي يوم الفصل في القضية؟ ألا يتكلم أحد كلمة من أجلي في وشنطون ولو لم يكن له عليها من أجر إلا دعوات رجل أسود وأسرته؟ لست أدري ماذا أفعل، ولست أملك إلا أن أصلي وأدعو الله أن يتحرك قلب كريم بالشفقة علي، فيفعل لي ما لست أستطيع أن أفعله لنفسي، وأن تعلن المحكمة العليا إذا رأت الحق في جانبي للناس هذا الحق ...»
وبات الناس ينتظرون حكم المحكمة وقلوبهم مليئة بالإشفاق على هذا الزنجي الفرد، الذي تجاوبت البلاد كلها صدى كلماته مفعمة بالرثاء له، ثم إن قرار المحكمة لن يكون إلا حكما في قضية الرق كلها، وكانت المحكمة العليا هي التي تفسر ما يختلف الناس فيه إذا كان اختلافهم على دستورية قانون من القوانين وقولها في ذلك الفصل.
وقضت المحكمة بحكم لم يكن للناس في البلاد حديث غيره زمنا؛ لفرط دهشتهم منه، ولأهمية مغزاه في تلك الظروف، ومؤدى هذا الحكم أنه ما كان لأي زنجي أن يرفع قضيته أمام محكمة من محاكم البلاد كما يفعل الرجل الأبيض، وأنه ليس للكونجرس ولا لأي مجلس من مجالس الولايات أي سلطة تخوله أن يمنع أي شخص من أن يعود برقيقه من الولايات الحرة إلى ولايات الرق، وليس لأحد أن يتدخل بين مالك الرقيق ورقيقه في أي جهة من الجهات!
ومغزى هذا الحكم أنه يجعل اتفاق مسوري اتفاقا غير ذي موضوع؛ لأن مالك الرقيق بمقتضى الحكم حر فيما يفعل برقيقه في أية ولاية من الولايات، ما كان منها في هذا الجانب من خط اتفاق مسوري أو في ذاك. وكذلك يقضي هذا الحكم على قرار نبراسكا الذي يجعل لمجلس الولاية الحق في تقرير مبدأ الرق في الولاية أو رفضه، فمرد المسألة الآن إلى مالكي الرقيق أنفسهم، وفي هذا وحده من معنى حماية المحكمة العليا لملاك الرقيق في البلاد ما حق لأهل الجنوب أن يطفروا فرحا به.
أما أهل الشمال فكان الحكم في نفوسهم غمة وفي حلوقهم شجى، فلا حديث لهم أينما تلاقوا إلا ما ينطوي عليه من معان، وأدرك الشماليون أن قد أزفت الآزفة، واقترب اليوم الذي يحتكم فيه أنصار الحرية وأنصار الرق إلى السيف، فقد أعلن الجنوبيون أن على الشماليين أن يذعنوا للحكم وإلا انسحبوا هم من الاتحاد، وكانوا يتهمون دعاة التحرير بأنهم هم الذين دبروا هذه القضية، وأن دردسكوت ما عمل إلا بوحيهم، وأيقن لنكولن أن الحوادث تؤيد ما ارتأى، ولعله كان يحس بينه وبين نفسه أن قد اقتربت الساعة التي يتناول فيها معولا، لا ليقطع الأخشاب كما كان يفعل من قبل في الغابة، بل ليهوي به على ذلك النظام البغيض فيضربه الضربة الحاسمة.
أيقن لنكولن ذلك، فهو وإن لم يكن يعرف الذهاب بنفسه يدرك اليوم أن قد صار له في السياسة مكانة الزعماء؛ فلقد ذاع اسمه خارج ولاية إلينوى وتقبله الناس بقبول حسن، وقد رأينا أن أهل إلينوى رشحوه لمنصب نائب الرئيس، ونذكر أنه نال من أصوات المؤتمر الأهلي للجمهوريين في مساشوست مائة صوت وعشرا، ونال ديتون مائتين وستة وخمسين، فأصبح ديتون مرشح الحزب، على أن حصول لنكولن على هذا العدد - وإن لم يرشح - دليل على نمو مكانته في نفوس الجمهوريين، ولما علم لنكولن بذلك تبسم ضاحكا وقال: «حسبت أول الأمر أن هناك رجلا عظيما في مساشوست يدعي كذلك أبراهام لنكولن.»
وقد تألم لنكولن وانكدرت نفسه لذلك الحكم الذي أصدرته المحكمة العليا، تلمح ذلك فيما عقب به عليه؛ إذ أخذ يقارن حال العبيد يومئذ بما كان يرجى لهم غداة إعلان استقلال الولايات، قال: «في هاتيك الأيام كان إعلاننا الاستقلال أمرا يعده الناس مقدسا كما أنهم عدوه ينتظم السكان جميعا، أما اليوم فقد سخر منه وهوجم وأول وفق الأهواء ومزق شر ممزق، حتى إنه لو أمكن أن يبعث صانعوه اليوم من مراقدهم ما أمكنهم أن يتعرفوه، وذلك بما فعلنا إذ حاولنا جعل استعباد الزنجي أمرا عاما أبديا، وإن جميع قوى الأرض لتظهر كأنها تتحد سريعا عليه، فأله المال «ممون» في أعقابه، ومن ورائه الطمع، ثم من وراء هذا الفلسفة، تتلوها جميع نظريات العصر التي تتكاتف جميعا لتؤيد الصيحة ضده. لقد ألقوا به في سجنه بعد أن فتشوه ولم يدعوا في يده أية آلة ينقب بها الجدار، وأغلقوا عليه الواحد بعد الآخر أبوابا ثقيلة من الحديد، كل منها ذو مائة مفتاح، ولا يمكن فتحه إلا أن تتفق على ذلك كل هاتيك المفاتيح، وإنها لفي أيدي مائة من الرجال مختلفين مبعثرين في مائة مكان سحيق، وإنهم فوق ذلك ليفكرون أي اختراع في كافة جوانب العقل والمادة يمكن أن يضاف إلى ذلك، ليتأكد لهم استحالة هربه أكثر مما يتأكد على هذه الصورة!»
وحق لأبراهام أن ينطلق لسانه بهذا الغضب، وأن تجزع نفسه لهذا الحكم؛ إذ ما نصيب موقف حزبه من القرب أو البعد من روح الدستور بعد هذا الحكم، وهو الحزب الذي يجعل اتفاق مسوري القاعدة التي يصدر عنها في معضلة الرق؟
وظلت الأحداث والنذر تأتي بعضها في إثر بعض؛ فهذه كنساس لا تزال تتوثب فيها الفتنة ويتحفر الشر، فقد أخذت تضع لها دستورا، وكان أنصار الحرية فيها أكثر عددا من أنصار الرق، ولكن هؤلاء عمدوا عند انتخاب مؤتمر عام يضع الدستور إلى القوة المادية، وتألفت عصابات منهم ومن بعض مؤيديهم من الولايات القريبة، وحالوا بين الأحزاب وبين أمانيهم بوسائل الإرهاب والتنكيل، وجرت الانتخابات على صورة مؤلمة، فلم ينتخب إلا أنصار الرق، فانفردوا بوضع الدستور، وقرروا فيه أن كنساس من ولايات الرق، واجتمع أنصار الحرية وأعلنوا احتجاجهم، وأعدوا دستورا آخر يحرمون فيه الرق.
Неизвестная страница