على أن هرندن يجده ذات مرة قد بكر إلى المكتب، ويراه صامتا كئيبا يرد تحيته في صوت أجش وفي كلمة مقتضبة، ويرى في وجهه عنفا وغضبا، ثم يلاحظ أنه يطيل الإطراق ويسترسل في التفكير، ويلمح حمرة يحس أنها حمرة الخجل تمشي أحيانا في صفحة وجهه، ولكنه لا يسأله عما به حتى يقبل عليه أبراهام يريد أن ينفس عن صدره فيقص عليه أمره؛ وذلك أن امرأته أخذت تغلظ له في القول وتسيء إليه في الصباح الباكر، وهو لا يرد على ذلك بكلمة فلا تهدأ، بل تزداد عنفا وتزيده إهانة حتى أحس أنه يفقد صبره شيئا فشيئا، فخرج من حجرة الطعام ليبتعد عنها، فلما عاد إليها بعد لحظة لأمر اقتضى عودته عادت إلى صراخها، ولقيته بعاصفة جديدة أفقدته صبره وأطارت صوابه، فأمسك بذراعها في عنف ودفعها في شدة وغلظة أمامه إلى الدهليز فالفناء، وما زال يدفعها حتى قذف بها في الشارع، وفعل ذلك على أعين بعض الناس وكانوا في طريقهم إلى الكنيسة؛ الأمر الذي أخجله أشد الخجل حتى وهو في سورة غضبه.
وهو إذ يرى زوجه تمد الموائد المرة بعد المرة في سخاء لصاحباتها، يجد نفسه عاجزا عن أن يدعو إلى الطعام في منزله أحدا من أصحابه، حتى أهله وذوي قرباه، فلم يجرؤ أحد منهم أن ينزل ضيفا عليه، وهم يعلمون من تكبر زوجه وعنفها ما يعلمون.
ولقد قدر على هذا الرجل أن يجد الشقاء في علاقته بالمرأة من أيامه، فطالما تألم لفقد حبيبة قلبه إذ طواها الموت، ولطالما شقي بزوجته قبل زواجه بها من جراء حيرته وتردده، ثم ها هو ذا يشقى بها بعد الزواج، وكان يأمل أن يجد بين يديها ما هو في حاجة إليه من الهدوء والراحة بعد ما لقيه من عنت الأيام وقسوة الحياة.
ولكن قلبه الإنساني الكبير وتمكن العدالة من نفسه يجعلانه على رغم ذلك يعطف على المرأة، فيتحمس لها إن استضعفت ويدافع عنها ما وسعه الدفاع. سئل مرة عن حقيقة إحساسه نحو المرأة فأجاب بما يفهم منه أنه من أكثر الناس حبا للمرأة، ولكنه من أقلهم حظا في الظفر بما يحب، وهو لا يعدم في أي موقف أن يوضح المعنى الذي يريد بحكاية أو نادرة، قال في هذا الصدد: «أذكر أيام كنا نعيش في إنديانا أن صنعت أمي ذات يوم كعكا مخلوطا بالزنجبيل، فلما شممت رائحته أسرعت إليها لآخذ نصيبي منه وهو ساخن، وناولتني أمي ثلاثة صنعتها لي على هيئة رجال، فأخذتها ومضيت إلى ظل شجرة من أشجار الهكري القريبة لآكلها، وكانت تعيش على مقربة منا أسرة أرق حالا منا، فبينا أنا في ظل الشجرة إذ أقبل صبي من تلك الأسرة وقال: أعطني واحدة من الزنجبيل يا أيب، فمددت إليه يدي بها فالتهمها التهاما، وابتلع الرجل في نهم، بينما كنت لا أزال أقضم الساقين، وعاد فسألني أن أعطيه رجلا آخر، وكنت أريده لنفسي، ولكني مددت يدي إليه به فالتهمه كما التهم الأول، فقلت له: يظهر أنك تحب كعك الزنجبيل يا صاحبي؟ فقال ما من شخص في الدنيا كلها يحبه كما أحب، وما من أحد ينال منه أقل مما أنال.»
ورأى الناس لنكولن يختلف إلى مغنية فيستمع إليها في إعجاب وشغف، ويتحدث إليها كذلك إذا فرغت من غنائها، وضايقه بعض أصحابه باستنكارهم ذلك منه، وهز البعض رءوسهم محذرين فأجابهم: «دعوني وشأني ... إنها المرأة الوحيدة التي أسمعتني أحاديث جميلة.» على أن أحدا من خصومه السياسيين لم يستطع - وهو يتصيد له ما يشينه - أن يجد غميزة في خلقه من هذه الناحية.
وكان لأبراهام يومئذ؛ أي عام 1850، ثلاثة بنين، كان أكبرهم في السابعة من عمره، وثانيهم يقرب من الخامسة، وثالثهم في سنته الأولى، ولئن أعوزه أن يحس السرور بين يدي زوجته، فلقد كان يجد بعض العزاء عن ذلك في ملاعبة ابنيه وفي رؤية ابنه الثالث في مهده، ولكن الزمن القاسي يأبى إلا أن يسدد إلى قلبه سهما من أحد سهامه وأوجعها، فينتزع الموت ابنه الثاني وهو في الخامسة من عمره، فيذهب كما تموت الريحانة الغضة، ويجدد موته آلام أبيه وأشجانه، حتى كأنها تجتمع كلها في هذا الموت.
وكأنما لم يكفه ما كان يلاقي من عنت زوجه حتى تأتيه المتاعب من جهة أخرى، فإن أقاربه فضلا عن أبيه ومنهم ابن زوج أبيه جون جونستون لا يفتئون يطلبون منه مالا، ويرجعون إليه فيما ينجم من خلاف ليصلح ذات بينهم، وحسبه ما كان فيه من شغل وهم.
وكان أبوه توماس لنكولن يومئذ شيخا كبيرا قد تجاوز السبعين، وكان يعيش في إلينوى عيشة البساطة التي شاركه فيها ابنه زمنا، ولقد امتد به العمر حتى رأى ابنه الذي كان يحمل الفأس معه في الغابة من ذوي المكانة، يعيش عيشة المدنية في سعة من الرزق، وكان يسر أبراهام أن يرسل إلى أبيه ما يسعه إرساله من المال والهدايا، وكان دائم السؤال عنه بكتبه التي يرسلها إلى من يقرؤها له ممن يعرفهم من المقيمين على مقربة منه.
وفي عام 1851 برحت العلة بالشيخ ودنا الموت منه، فكتب جونستون إلى أبراهام يخبره هذا الخبر فعظم وقعه في نفسه، ولكنه لم يستطع أن يسافر ليرى أباه، فكتب إلى جونستون يقول:
إنك تعلم أني أريد ألا يحتاج أبي أو أمي
Неизвестная страница