كان أبراهام مزمعا أن يتخذ من المحاماة مرتزقا، فقد اعتزم أن يترك العمل في البريد وفي تخطيط الأرض منذ أن هم بالرحيل إلى سبرنجفيلد، فأقبل على كتب القانون يستزيد منها علما، وكان يعيره بعض الكتب محام في المدينة يدعى ستيوارت، وما لبث أن رأى ستيوارت من ذكاء صاحبه وطيب سريرته وحسن طويته ما دعاه إلى أن يشركه معه في العمل، ولم يكن ذلك يستدعي يومئذ امتحانا أو شهادة خاصة، وقبل أبراهام مغتبطا، يحس كأن الأيام توشك أن تبسم له بعد تجهم طويل، فله اليوم في السياسة مجال وله في المحاماة مجال.
ولكن هناك من الأمور ما لا يزال يكدر خاطره ويكرب نفسه؛ وذلك ما كان من غرامه الثاني، إن جاز لنا أن نسمي علاقته الجديدة بعد موت آن غراما. والحق أن هذا الجانب من حياة أيب - جانب علاقته بالمرأة - أمر يدعو إلى العجب، حتى ليحمله المرء على ما كان من شذوذه في بعض أموره أكثر مما يحمله على ما كان من حصافته في معظم الأمور.
عرف لنكولن - فيمن عرف من أهل نيو سالم - امرأة كانت تضيفه أحيانا فتحسن ضيافته، وظل يغشى منزلها زمنا حتى أصبح كأنه من أهلها، وحدثته تلك المرأة - فيما حدثته - عن أخت لها غائبة ألقت عليها من الصفات ما تبتكره أخت حين تبحث لأختها عمن يطلب يدها، ورد عليها أبراهام مرة وهو لا يدري أمازح فيما يقول أم جاد، إنه يرحب بالزواج من تلك الأخت إذا قبلت، ولما عادت كانت تجلس إليه ويجلس إليها.
وصور له خياله أن كلمته ميثاق لن يسمح له ضميره أن يتحلل منه، ولكنه في حيرة دونها كل ما سلف له من حيرة؛ فإنه لا يحس في قلبه نحوها مثل ما يحسه المرء حين يمر به طائف من الحب، وهو مع ذلك لا يستطيع أن يقطع أنه لا يحبها؛ إنها تعجبه بذكائها وما علمت من علم وما امتلكت من متاع، وإن لم يكن كثيرا، وهو قد قطع على نفسه عهدا، أو ما يشبه العهد، ولكنه لا يدري إن كان يحبها حقا كما يكون الحب، أم أن فراغ قلبه بعد موت آن قد جعله يركن إليها ظانا أنه الحب!
إنه لحائر ضائق بأمره، فلعل ما هو فيه اليوم من أمور السياسة ومن شئون عمله الجديد في المحاماة ما يصرفه حينا عن هواجسه ووساوسه.
ذهب أيب ليبدأ عمله الجديد، وهو ذلك العمل الذي طالما تاقت نفسه إليه، وإن فرحه بهذا العمل الذي منى به نفسه كثيرا وهو بين الأحراج لخليق أن يذهب عنه الحزن، ويدرأ عن نفسه الضيق. أوليس يغدو محاميا يدافع عن المظلومين ويملأ قلوب الناس إعجابا بفصاحته، كما ملأ قلبه مرة ذلك المحامي المدل الذي ازدراه يوم تقدم ليهنئه وهو بعد غلام حائر بين الفأس والكتاب؟!
وكانت الحجرة التي اتخذها ستيوارت لعمله ضيقة، بها رفوف للكتب تزدحم بالكثير منها، وبها منضدتان وبعض الكراسي الخشبية الجافة وأوراق مبعثرة في كل ركن، وكان أبراهام أول الأمر يعمل عمل الكاتب ويقابل أصحاب القضايا وينسخ المحاضر ويرتب المواعيد، وكان ذلك يضايقه بعض الضيق، ولكنه كان يحظى بشهود الجلسات فيذهب عنه ضيقه.
ثم ترك له ستيوارت ما خف من القضايا ليترافع فيها، ففرح المحامي الناشئ بهذا فرحا شديدا، وأقبل على عمله في همة وسرور بالغين.
وانبعث دستوره في المحاماة بادئ الأمر من أعماق نفسه، فهو دستور قائم على توخي الحق والدفاع عنه ونصرة المظلومين والأخذ بيد المستضعفين، كان لا يقبل قضية لا يقتنع بصدقها مهما أجزل له من أجر، وكان لا يقرب قضية يعلم أن الدفاع فيها يجني على الخلق من قريب أو بعيد، وكان أسلوبه في المحاماة كذلك صورة لنفسه؛ فهو لا يعرف اللجاج ولا المطاولة، ولا يلتوي في أمر أو يخفي في نفسه شيئا إلا إذا كان ذلك لستر عرض أو حفظ كرامة، ولن يكون للمجاملة عنده حساب إذا ترتب عليها إساءة إلى فضيلة أو انتقاص من عدل.
وخفت وطأة الأيام عليه بعض الشيء؛ فمكانه في المحاماة - وهو بعد لم يتجاوز الثامنة والعشرين - ينبئ عن مستقبل عظيم، ومكانه في السياسة قد جعله رأس حزبه في المجلس، وهو كما مر بك حزب الهوج، وقد أخذ المجلس يتسع حتى أصبح عدد أعضائه ثلاثين ومائة بعد أن كانوا ثمانية، وهو - فضلا عن ذلك - حبيب إلى أهل سبرنجفيلد؛ لما كان له من يد في نقل المجلس إليها وجعلها قاعدة الولاية، وهم قد أنسوا من خلاله في السياسة والمحاماة ما اجتذب قلوبهم إليه، وما جعل اسمه الذي عرف به في نيو سالم يجري على ألسنتهم؛ فهو بينهم أيب الأمين، ولقد توثقت المودة بينه وبين الكثيرين، وعلى الأخص سبيد صاحب الحانوت.
Неизвестная страница