واشتدت العزائم الخائرة، ورأى المستضعفون كما رأى الذين استكبروا ما كانوا قبل في عمى عنه؛ رأوا فضل الثبات والصبر، فراحوا يتوبون إلى رئيسهم ويهنئونه بما صبر.
والرئيس يشارك القوم جذلهم، ولكن نشوة النصر لا تصرف عينيه عما هو فيه، كالربان الماهر الحاذق لن يدير عينيه عن البحر إذا هو اجتاز جنادله، ولن يزال محدقا متيقظا حتى تلقي السفينة مراسيها.
وكان في نفس الرئيس شيء يكاد ينسيه فرحة النصر؛ وذلك أن ميد وقف فلم يتعقب لي عند انسحابه، فسهل عليه بذلك عبور النهر إلى فرجينيا كما فعل ماكليلان في موقف مشابه من قبل، ولكن ميد كان يرى الجيش في حال من الإعياء يستحيل معها أي زحف مهما هان، فلقد جاء نصره بشق الأنفس، وأحس القائد المنتصر الحرج من موقف الرئيس حياله، فطلب إليه أن يعفيه من القيادة، فرد عليه الرئيس ملاطفا في صفح يشبه الاعتذار.
وكأنما جاء انتصار الشماليين في المعركتين على قدر من الظروف، فلقد كانت تأتي الأنباء من خارج أمريكا بسوء موقف الحكومة الإنجليزية من قضية أهل الشمال! تلك الحكومة التي كان يعتقد لنكولن أنها سوف تحمد له قضاءه على العبودية، فأعلن قرار التحرير وفي نفسه هذا الرجاء، ولشد ما آلمه بعدها أن يرى الحكومة تتذبذب وتلتوي، ولا تخطو إلا على هدي من مصالحها المادية.
على أنه كان مما يخفف وقع الجحود في نفس الرئيس ما كانت تأتي به الأنباء من موقف فريق من أحرار الشمائل من الشعب الإنجليزي حياله؛ فلقد علم أن اجتماعات عقدت في مانشستر ولندن هتف فيها باسم الرئيس هتافا عاليا، حتى لقد وقف الناس في أحدها دقائق يلوحون بقبعاتهم في الهواء عند ذكر اسمه، وظل هذا شأن أحرار الإنجليز حتى بلغ إنجلترة نبأ انتصاره، فاستخزى الطامعون وذوو الأغراض من رجال الحكومة والبرلمان، هؤلاء الذين كانوا يريدون أن يتخذوا من انتصار الجنوبيين ذريعة لإعلان اعترافهم بهم أمة مستقلة، والذين بلغ بهم الحقد على لنكولن وحكومته أن جهزوا سفنا لمناوءة تجارة الشماليين في المحيط، وأرسلوا بعضها فعلا لهذا الغرض.
تلك هي نتائج الانتصار في المعركتين وما كان له من أثر في الداخل والخارج. قال لنكولن حين قرأ رسالة جرانت: «الآن يستطيع أبو المياه أن يذهب من جديد إلى البحر وليس في سبيله عائق.»
واجتمع الناس في حفل كبير عند موضع جتسبرج ليمجدوا ذكرى ضحاياها، وطلبوا إلى الرئيس أن يخطبهم في هذا الحفل المشهود، فكان مما قاله: «منذ سبعة وثمانين عاما أقام آباؤنا في هذه القارة أمة جديدة، نشأت على الحرية وعلى ما نودي به من أن الناس خلقوا جميعا متساوين، ونحن الآن في حرب أهلية هي بمثابة اختبار لنا، لنرى هل تستطيع هذه الأمة أو أية أمة نشأت نشأتها أن تعيش طويلا ... ونحن نجتمع هنا لنمجد موضعا منها نجعله مقرا أخيرا لهؤلاء الذين بذلوا أرواحهم كي تستطيع أمتهم أن تعيش، وهذا عمل خليق بنا أن نعمله، ولكنا لن نستطيع في معنى أوسع من هذا أن نخلد أو نقدس هذه البقعة مهما فعلنا ... ذلك أن البواسل من الرجال سواء في ذلك الأحياء والأموات الذين ناضلوا هنا، قد خلدوها بما لا نستطيع أن نزيد عليه أو ننقص منه، وإن العالم لن يهتم كثيرا بما نقول ولن يذكره طويلا، ولكنه لن ينسى ما فعل هؤلاء ...» ثم زاد الرئيس على ذلك فقال: «يجب أن نعقد العزم على ألا ندع هؤلاء يذهبون عبثا، وعلى أن تمنح هذه الأمة في عناية الله مولدا جديدا؛ هو مولد الحرية، وعلى أن تكون حكومة الشعب التي قامت بإرادة الشعب لتعمل للشعب، بحيث لا تزول أبدا من فوق هذه الأرض.»
هذا خطاب الرئيس الذي سمعه الناس في تلك البقعة التي صبغتها دماء المجاهدين، وقد وصلت كلماته إلى أعماق نفوسهم فهزتها هزا، ولم يتمالك الكثيرون أن يحبسوا دموعهم من فرط ما أحسوا.
ولاحظ المتصلون بالرئيس أن الشدائد قد نالت من جسده وإن لم تنل من عزمه، ورأوا السنديانة يمشي إليها الذبول شيئا فشيئا حتى ليخافوا أن تذوي فتسقط. أجل، فزع الناس أن يروا أبراهام تتجمع وتتزايد في وجهه الغضون والخطوط، وأن يلمحوا في صفحة هذا الوجه المحبوب أمارات الجهد، وفي نظرات تلكما العينين البريئتين أثر السهر وطول العناء، ولكن روحه أعظم من أن يتطرق إليها الوهن. ذهب إليه أحد كبار السياسة في أمر من أهم الأمور، فأخذ الرئيس يقص عليه من قصصه ويضحك ضحكات عالية، فلم يطق الرجل صبرا ووثب من مكانه قائلا وفي لهجته شدة وفي عبارته حدة: «أيها الرئيس، إني ما جئت هذا الصباح لأسمع قصصا ... إن الوقت عصيب.» ونظر إليه الرئيس نظرة عتب وقال له في رزانة وأدب: «أجلس يا أشلي ... إني أحترمك كرجل مخلص ذي حمية ... وإنه لن يبلغ اهتمامك بما نحن فيه أكثر مما بلغ اهتمامي الذي ما فارقني منذ أن بدأت هذه الحرب، وإني لأقول لك الآن إنه لولا هذا الذي أنفس به أحيانا عن نفسي لحاق بي الموت.»
وسار العام الثالث إلى نهايته والبلاد يزداد أملها في النجاح، بعد أن كاد اليأس يعصف بالقضية كلها فيأتي عليها؛ ولذلك كانت جتسبرج وفكسبرج صخرتي النجاة، فها هي ذي نيويورك تنبعث منها بوادر فتنة، لولا هذا النصر لجرف تيارها كل شيء، وبيان هذه الفتنة أن حاكم ولاية نيويورك - وكان من أكبر المنادين بوضع حد لهذه الحرب - ما فتئ يحرض الناس حتى هبت ثورة عنيفة في مدينة نيويورك، اقترف فيها المشاغبون ودعاة الفوضى أفعالا منكرة، وبالغوا في تمردهم وعصيانهم حتى اضطرت الحكومة أن ترسل عليهم فريقا من الجند فقضوا على الفتنة. ومن غريب أمر هؤلاء العصاة أن قامت حركتهم التي دبروها من قبل عقب الانتصار في جتسبرج وفكسبرج. ولقد كانت تلك الحركة من مآسي هذا العام، ولولا أن جاء النصر كما ذكرنا وأشرق نور الأمل في ظلمات اليأس، لجاز أن تمتد الفتنة فتأتي على كل شيء.
Неизвестная страница