وبلغ الرئيس مكان الاحتفال، وهو مرتفع أعد لهذا الغرض، وقد امتلأت الساحة المحيطة به بجموع من الناس حي ما تتسع لقدم. وكان على مقربة من المكان تمثال وشنطون المنحوت من المرمر الأبيض، يتلألأ في ضوء الشمس وتنبعث منه معاني العظمة والبطولة والحرية والفداء.
ووقف الرئيس لنكولن يوجه الكلام للشعب جميعا لأول مرة، وقف ابن الأحراج أمام هاتيك الجموع ثبت الجنان، مستوي القامة، مرفوع الهامة، وألقى نظرة أمامه على علية القوم من الشيوخ والأعيان ورجال الجيش ورجال الدين والقضاة وغيرهم وغيرهم، ثم مد بصره في الجموع وقد سكنت ريحهم فتهيأ للكلام، ولكن ماذا عراه؟ لقد وقف يمسك بإحدى يديه قبعته وبالأخرى عصاه، فكيف يمسك الورق ليتلو منه خطبته؟! ها هو ذا يسند العصا إلى الحاجز الخشبي أمامه، فأين يضع القبعة؟ لقد أوشك أن يقع في ورطة وأوشك أن يثير ضحك الخصوم بحيرته، ولكن ها هو ذا رجل يثب من مكانه - وكان يجلس منه في سمت بصره - فيأخذ القبعة من يده، ومن هو ذلك الرجل؟ إنه دوجلاس خصمه القديم ومنافسه بالأمس ذو البأس الشديد.
وكان دعاة الانسحاب من أنصار الجنوب يأملون أن يتهدد لنكولن الولايات الجنوبية ويتوعدها؛ فيشتد بذلك الهياج في تلك الولايات ويتعذر بعدها أن يجنح أهلها للسلم، ولكن لنكولن خيب ظنونهم وزادهم بحكمته وحصافته ويقظته وبعد نظره غما على غم.
كانت خطبته خير مثال للاعتدال في غير تفريط، وللتواضع في غير استخزاء أو استسلام، وللتحذير في غير إثارة أو استفزاز، وللمرونة في غير رياء أو التواء، وللعدالة في غير جفاء أو عداء، كما كانت كالسلسل العذب سهولة لفظ وفصاحة عبارة، هذا إلى ما امتازت به من نصوع البرهان ومتانة الحجة واستقامة المنطق، وبراعة السياق ودقة الإلمام بالموضوع والإحاطة به من أقطاره جميعا، وحسن التفطن إلى ما كان يشغل يومئذ الأذهان.
وكان الخطيب رنان الصوت، قوي الجرس، حسن الإشارات بيديه، على محياه الجد والهيبة والعزم، وفي كلماته حرارة الإيمان وقوة اليقين وصدق الإخلاص؛ ولذلك كانت عباراته تنفذ إلى قلوب أنصاره وخصومه على السواء، وإن كان خصومه ليكرهون فوزه وينكرون مبادئه.
قال يشير إلى مخاوف أهل الجنوب: «يظهر أن المخاوف تنتشر في الولايات الجنوبية، ومبعثها أن قبولهم حكم الجمهوريين من شأنه أن يعرض أملاكهم وسلامتهم وأمنهم على أشخاصهم للمخاطر، ألا إنه ليس ثمة من سبب معقول لهذه المخاوف، بل لقد قامت بينهم أقوى شهادة على نقيض ذلك، وكانت دائما تحت أسماعهم وأبصارهم، إنها كانت توجد في كل خطبة من خطب محدثكم الآن، وإني لأقتبس من إحدى تلك الخطب؛ إذ أقول إنه ليس لي من غرض مباشر أو غير مباشر للتدخل في نظام الرق في الولايات التي يقوم فيها هذا النظام، وإني لأعتقد أنه ليس من حقي أن أفعل ذلك، وأن الذين رشحوني وانتخبوني إنما فعلوا ذلك وهم على أتم علم بأني كثيرا ما صرحت بمثل هذا، وما تزحزحت مرة عما قلت.»
ولم يقف الرئيس في اعتداله عند هذا الحد، بل لقد ذهب إلى التصريح بأن العبد الآبق إلى الولايات الحرة لا تمنح له الحرية، ولقد أشفق كثير من أنصاره من هذا التصريح، ولكن لنكولن يستند في ذلك إلى مبادئ الحزب، التي لا يمنح بمقتضاها العبد حريته إلا إذا ذهب مع سيده غير آبق إلى ولاية حرة فأقام فيها.
وتكلم لنكولن عن انسحاب الولايات من الاتحاد فقال: «لن يخول القانون لأية ولاية حق الانسحاب ...» ثم أردف قائلا إن القسم الذي أقسمه على المحافظة على الدستور يجعل لزاما عليه أن يؤدي واجبه، فيعمل على أن يكون قانون الولايات المتحدة نافذا في جميع الولايات، واختتم الحديث في هذا الموضوع بقوله: «إني واثق من أنكم لن تحملوا على التهديد كلامي، بل إنها كلمة الاتحاد يعلن أنه سوف يحمي بناءه ويدعمه على أساس من الدستور، وهو إذ يفعل ذلك لا يرى ثمة حاجة إلى سفك الدماء أو العنف، ولن يكون شيء من هذا إلا إذا أجبرت عليه السلطة القومية.»
وأشار إلى الوحدة من الوجهة العضوية، فقال إن نصف الشعب لا يستطيع أن يقوم بغير النصف الآخر، وإذا كان في الدستور عيب فمن الممكن إصلاحه بمؤتمر يجتمع فيه ممثلو الشعب، فإذا رأى الشعب الانفصال حقا لكل ولاية فله رأيه وليفعل كما يرى، أما هو فما يملك من قوة إلا ما منحه الشعب.
وتكلم عن الداعين إلى الثورة، فقال إنه لا مبرر للثورة إلا إذا لجأت الأغلبية إلى الطغيان، ومثل هذا المبرر لا وجود له، وإن الانسحاب معناه الفوضى، ولا نتيجة للفوضى إلا الاستبداد.
Неизвестная страница