ولاقى أبراهام عنتا من بعض خصومه في بيتسبرج وبعض جهات غيرها، فأرادوا إيذاءه وتصايحوا ضده، فأسمعوه من البذاء ما أعرض عنه إعراض المؤمنين الصابرين، وكانوا يطلقون عليه اسم الجمهوري الأسود؛ مبالغة في الزراية به، تقدمت سيدة تحمل في يدها عروسا سوداء من الخشب فرفعتها أمام وجهه، فنظر أبراهام إليها باسما وقال: «أهذا طفلك الرضيع يا سيدتي؟» فاستخزت أيما استخزاء، ولم يقو خصومه أنفسهم على كتم ضحكاتهم منها، وجاء شاب على ظهر جوداه فمشى به قبل لنكولن حتى أصبح في محاذاته، ورأى أبراهام في وجهه أمارات السفه، فما زاد على أن نظر إليه نظرة حملته على الفرار في فرق وخزي.
ولكنه استقبل في أتاوا استقبال الفاتحين، فحمله شباب المدينة فوق أعناقهم والألوف تهتف به، إذ هو ضائق بهذا يطيقه على رغمه، ولو أنه استطاع أن يفلت منه لفعل مسرعا، وما كان أشبهه ساعتئذ بخليفة المسلمين عمر حين صاح بقومه في موقف لهم من مواقف الزهو أن كاد يقتله الزهو.
أجل! تبرم أبراهام بهذا الزهو فما كان من شيمته أن يزهى، ولا كان من خلقه أن يترفع أو أن يطغى، بل إنه كان لا يزداد حظه من الصيت إلا تواضع، ولا يعظم نصيبه من الجاه إلا خفض جناحه وألان جانبه للناس جميعا، أنصاره وخصومه في ذلك سواء.
يحكي صديق له أن عاصفة ألجأته وأبراهام أثناء ذلك الصراع إلى عربة مظلمة من عربات سفن الشحن، وجلس أبراهام القرفصاء على أرض العربة كما كان يفعل في كوخ أبيه في الغابة، وكلم صديقه وسط الظلام فقال: «كانت أعظم أمنية لي أيام كنت أبيع في حانوت بمدينة نيو سالم أن أدخل المجلس التشريعي للولاية.» وسكت لحظة ثم استأنف قوله ضاحكا: «أما أن أطمح إلى عضوية مجلس الشيوخ في وشنطون، فذلك ما دفعتني صاحبتي إليه ... والآن أحس أني - إذا أردت الحق - كفؤ لذلك، ولكني مع هذا لا أبرح أقول لنفسي إن هذا الأمر أكبر من أن أضطلع به ولن أصل إليه أبدا، على أن ماري لا تزال مصرة على رأيها في أني سوف أكون عضوا في مجلس الشيوخ ورئيسا للولايات المتحدة.» ثم ضحك من قول زوجته ضحكة اهتز لها كيانه كله، وقال ويداه تعتقلان ركبتيه وإنه لا يزال يضحك ملء نفسه: «صور لنفسك يا صاحبي كيف يكون أبله مثلي رئيسا!»
وعاد أبراهام إلى سبرنجفيلد بعد أن قضى في ذلك النزال أكثر من شهرين، عاد إلى زوجه وأولاده فلقيته ماري راضية عنه على الرغم من إخفاقه؛ أوليست ترى الصحف كلها تذكر زوجها، وترى أكثر صحف الشمال تطنب في مدحه وتعده بطلا من أبطال قومه؟ أوليست هذه هي النغمة الحلوة التي تحب سماعها؟ وأي شيء هو أحلى وقعا في قلبها من أن ترى نفسها زوج رجل عظيم يعترف الناس بعظمته؟!
وأقبل على المحاماة من جديد؛ فلقد أنفق في هذا الصراع من المال ما أرهقه من أمره عسرا، هذا إلى أنه بانقطاعه عن مهنته طوال تلك الأيام لم يكسب من المال شيئا، وهكذا يعود ابن الغابة إلى كدحه ليقيم أوده وأود أسرته، بينما يذهب دوجلاس يرفل في النعمة إلى وشنطون، ويجر ذيل الخيلاء السابغ الضافي.
بين المحاماة والسياسة
عاد المحامي يكدح من أجل قوته كدحا شديدا، ويأخذ قسطه من النصب مع صديقه هرندن، وكان قد تركه وحده طيلة ذلك الصراع العنيف، وإن به بعد عودته هذه لحاجة إلى المال شديدة، فهو اليوم ذو عسرة، وليس يطلب المال ليستعين به على الوصول إلى جاه كما يفعل دوجلاس ومن على شاكلته من الناس، وإنما ليؤدي به ما تتطلبه أكلاف العيش.
وكان من العادات المعروفة في مجال السياسة أن يكلف ذوو المكانة من السياسيين من أي حزب بدفع قدر من المال؛ لتستعين به اللجنة المركزية للحزب في الولاية على ما يتطلبه العمل السياسي من أوجه الإنفاق، وكتب رئيس اللجنة المركزية للحزب الجمهوري في إلينوى إلى لنكولن يطلب إليه أن يرسل ما عليه من المال، فرد عليه يقول: «إني على استعداد لأدفع على قدر ما أستطيع ... لقد قضيت زمنا طويلا أنفق ولا أكسب شيئا، وإنه ليعوزني المال اليوم فلا أكاد أجده حتى لمطالب بيتي، على أنك إذا أديت عني مبلغ مائتين وخمسين ريالا مما على من دين للجنة، فإني سأحسب هذا المبلغ متى التقينا لنصفي ما بيننا من حساب شخصي، فإذا أضفت إلى ذلك ما دفعته فعلا، وأضفت إليه كذلك مكتوبا بدين يحق لي قدمته، فإن هذا كله يفوق ما علي للحزب وقدره خمسمائة ريال، وإن هذا - فضلا عما أنفقته في المعركة السالفة وما ترتب على دخولي تلك المعركة من ضياع لوقتي وشئون عملي - لخليق أن يرهق من لم يكن له أكثر مما لي من طيبات هذه الدنيا.»
وكانت ماري على ما به من خصاصة لا تفتأ تطلب منه الكثير من المال؛ لتظهر به في المظهر الذي يليق بما أصبح له من مكانة؛ فلن ترضى حتى تشتري عربة جديدة وملابس جديدة، وحتى تزيد أبهة البيت وتضيف إليه أثاثا جديدا، ولقد أدى إليها ثمن هذا كله ولم يتفوه بكلمة؛ فما يقوى على مخالفتها في هذا وإن اشتد به العسر.
Неизвестная страница