وهكذا ساروا في الدرب ببطء مثقلين بحمولتهم. حينئذ سمعوا صوت الأزيز المعدني لمروحية. لم يكونوا بحاجة إلى الاختباء فقد كانوا شبه محصورين بين الأغصان المتشابكة لكن دفعتهم الغريزة لأن يخرجوا عن الدرب ويختبئوا بين شجيرات البيلسان الخضراء المتشابكة ويقفوا دون حراك وهم يكادون يكتمون أنفاسهم، وكأن صوت كل نفس يلتقطونه قد يبلغ ذلك الوحش المتلألئ المخيف، وتلك العيون الراصدة والآذان المصغية. علت الضوضاء حتى صارت قعقعة تصم الآذان. لا بد أنها فوق رءوسهم مباشرة. خيل لثيو أن الحياة قد تدب فجأة في الشجيرات التي يحتمون بها. ثم بدأت المروحية تدور في دائرة، فيهدأ أزيزها ثم تعود مرة أخرى لتجدد خوفهم. بعد خمس دقائق تقريبا، هدأ أخيرا ضجيج المحرك حتى صار مجرد همهمة بعيدة.
قالت جوليان بصوت خافت: «ربما لا يبحثون عنا.» كان صوتها ضعيفا، لكن فجأة انكمشت ألما وأمسكت بميريام.
كان صوت ميريام صارما. «لا أظنهم خرجوا في نزهة. على كل حال، لم يعثروا علينا.» التفتت إلى ثيو. «كم تبعد سقيفة الحطب تلك؟» «حوالي خمسين ياردة إن لم تخني الذاكرة.» «لنأمل أنها لم تخنك.»
اتسع الدرب فصار مرورهم أسهل، لكن ثيو الذي كان متخلفا قليلا عن المرأتين، شعر أن كاهله مثقل بأكثر من وزن المتاع الذي يحمله. بدا حينئذ تقييمه السابق لتقدم رولف المحتمل في طريقه متفائلا للغاية. لم سيشق طريقه ببطء وخلسة إلى لندن؟ ولم سيحتاج لأن يذهب بشخصه إلى الحاكم؟ كل ما يحتاج إليه هو هاتف عمومي. رقم المجلس معروف لكل مواطن. تلك السهولة الظاهرية في الوصول إليه هي جزء من سياسة الانفتاح التي يتبناها زان. لن تتمكن دوما من التحدث إلى الحاكم بنفسه، لكن بإمكانك دوما أن تحاول. بل إن بعض المتصلين كانوا ينجحون في ذلك. وهذا المتصل، فور أن يفصح عن هويته ويتحقق منها، سيكون له الأولوية . سيطلبون منه أن يختبئ، وألا يتحدث إلى أحد حتى يأتوا ليقلوه، بطائرة مروحية بالتأكيد. وعلى الأرجح هو في قبضتهم منذ أكثر من اثنتي عشرة ساعة.
ولن يواجهوا صعوبة في العثور على الهاربين. لا بد أن زان عرف بأمر السيارة المسروقة في الصباح الباكر، وبكمية الوقود التي كانت في خزانها، وعرف بدقة كم ميلا بإمكانهم أن يأملوا أن يقطعوه. ما عليه سوى أن يحدد نقطة على الخريطة ويرسم حولها دائرة. لم يكن لدى ثيو أي شك بشأن دلالة تلك المروحية. لقد بدءوا بالفعل في البحث عن طريق الجو، وتحديد المنازل المعزولة، والبحث عن التماعة سطح سيارة. وسيكون زان حتما قد نسق بالفعل البحث على الأرض. لكن بقي أمامهم أمل وحيد. قد لا يزال ثمة وقت كي يولد الطفل كما تريد أمه، في سلام، وفي خصوصية، دون أن يشهد ولادته سوى الشخصين اللذين تحبهما. لا يمكن أن يكون البحث سريعا؛ لقد كان بالتأكيد محقا بشأن ذلك. لن يريد زان أن يتدخل بالقوة أو أن يلفت أنظار العامة، ليس بعد، ليس قبل أن يتسنى له التحقق بنفسه من صحة رواية رولف. وسيوظف فقط رجالا مختارين بعناية لتلك المهمة. لا يسعه حتى التأكد من أنهم سيختبئون في غابة. لا بد أن رولف أخبره أن تلك كانت خطتهم الأصلية؛ لكن رولف لم يعد قائدهم.
كان يتشبث بذلك الأمل، ويحمل نفسه على التحلي بالثقة التي كان يعلم أن جوليان ستحتاجها منه، حينما أتاه صوتها. «ثيو، انظر. أليس ذلك بديعا؟»
استدار وتحرك إلى جوارها. كانت تقف بجانب شجرة زعرور طويلة مفرطة النمو محملة بحبات الزعرور الحمراء. من أعلى غصن بها تدلت جفلة بيضاء من الظيان، شفافة كالستار الرقيق، من ورائها تتلألأ حبات الزعرور كالجواهر. نظر إلى وجهها المنتشي، وقال في نفسه: أنا أدرك فحسب أنها جميلة، أما هي فبوسعها أن تشعر بجمالها ذاك. نظر وراءها إلى شجيرة بيلسان وبدا كأنه يرى بوضوح لأول مرة حباتها السوداء البراقة وسيقانها الحمراء الرقيقة. لوهلة شعر كأن الغابة قد تحولت من مكان مظلم ومخيف، كان يشعر في قرارة نفسه أن أحدهم سيلقى حتفه فيه، إلى ملاذ غامض وجميل، لا يعبأ بأولئك المتطفلين الثلاثة، لكنه مكان لا يشعر بأن أي شيء يسكنه غريب عنه تماما.
ثم سمع صوت ميريام فرحا ومبتهجا. «سقيفة الحطب لا تزال موجودة!»
الفصل الثاني والثلاثون
كانت السقيفة أكبر مما توقع. عكس المعتاد، صورتها له ذاكرته أصغر لا أكبر. ولوهلة تساءل إن كان ذلك المبنى ذو الجدران الثلاثة المصنوع من الخشب المسود، والذي يمتد لثلاثين قدما، هو سقيفة الحطب التي يذكرها. ثم رأى شجرة البتولا الفضية بجوار المدخل. آخر مرة رآها كانت مجرد شتلة، أما الآن فكانت أفرعها تعلو السقف. اطمأن إذ رأى أن السقف كان يبدو سليما، مع أن بعض ألواحه قد انزلقت. كان الكثير من الألواح في جانب السقيفة مفقودا أو مشروخا، وبدا أن السقيفة المائلة المنعزلة المتداعية لن تتحمل أكثر من بضعة فصول شتاء أخرى. غاصت ناقلة أخشاب ضخمة اعتراها الصدأ مائلة في منتصف الفرجة، وقد تشققت أطرها وتعفنت وبجوارها رقد إطار ضخم منفرد. لم يكن الحطب قد نقل بالكامل عندما انتهى قطع الأشجار، فكانت توجد كومة حطب لا تزال ترقد مرتبة بجوار شجرتين كبيرتين ساقطتين. كان جذعاهما العاريان يلمعان كالعظام المصقولة وكانت كتل وشظايا لحائها مبعثرة على الأرض.
Неизвестная страница