بالله ﷾ أحمد بن أبي الحواري فإنه كما ذكره أبو نعيم١ في الحلية: لما فرغ من التعلم جلس للناس فخطر بقلبه يوما خاطر من قبل الحق فحمل كتبه إلى شط الفرات فجلس يبكي ساعة ثم قال: نعم الدليل كنت لي على ربي ولكن لما ظفرت بالمدلول علمت أن الاشتغال بالدليل محال فغسل كتبه وذكر ابن الملقن٢ في ترجمته من طبقات الأولياء ما نصه: وقد روي نحو هذا عن سفيان الثوري أنه أوصى بدفن كتبه وكان ندم على أشياء كتبها عن الضعفاء٣ وقال ابن عساكر في الكنى من التاريخ٤: إن أبا عمرو بن العلاء كان أعلم الناس بالقرآن والعربية وكانت دفاتره ملء بيت إلى السقف ثم تنسك وأحرقها.
فائدة: ذكرها البقاعي٥ في حاشيته على شرح الألفية للزين العراقي وهي أنه قال: سألت شيخنا - يعني ابن حجر العسقلاني - عما فعل داود الطائي وأمثاله عن إعدام كتبهم ما سببه؟ فقال: لم يكونوا يرون أنه يجوز لأحد روايتها لا بالإجازة ولا بالوجادة بل يرون أنه إذا رواها أحد بالوجادة يضعف فرأوا أن مفسدة إتلافها أخف من مفسدة تضعيف بسببهم. انتهى.
أقول: وجوابه بالنظر إلى فن الحديث لا يقع جوابا عن إعدام ابن أبي الحواري وأمثاله لأن الأول: بسبب ضعف الإسناد والثاني: بسبب الزهد والتبتل إلى الله - سبحانه - ولعل الجواب عن إعدامهم: أنه إن أخرجه عن ملكه بالهبة والبيع ونحوه لا تنحسم مادة العلاقة القلبية بالكلية ولا يأمن من أن يخطر بباله الرجوع إليه ويختلج في صدره النظر والمطالعة في وقت ما وذلك مشغلة بما سوى الله ﷾.
فائدة: في طريق النظر والتصفية:
اعلم: أن السعادة الأبدية لا تتم إلا بالعلم والعمل ولا يعتد بواحد منهما بدون الآخر وأن كلا منهما ثمرة الآخر مثلا: إذا تمهر الرجل في العلم لا مندوحة له عن العمل بموجبه إذ لو قصر فيه لم يكن في علمه كمال وإذا باشر الرجل العمل وجاهد فيه وارتاض حسبما بينوه من الشرائط تنصب على قلبه العلوم النظرية بكمالها فهاتان طريقتان الأولى منهما: طريقة الاستدلال والثانية: طريقة المشاهدة وقد ينتهي كل من الطريقتين إلى الأخرى فيكون صاحبه مجمعا للبحرين فسالك طريق الحق نوعان:
أحدهما: يتبدى من طريق العلم إلى العرفان وهو: يشبه أن يكون طريقة الخليل ﵊ حيث ابتدأ من الاستدلال.
والثاني: يبتدئ من الغيب ثم ينكشف له عالم الشهادة وهو: طريق الحبيب ﷺ حيث ابتدأ بشرح الصدر وكشف له سبحات وجهه ﷺ.