Аль-Ахкам аль-Удхия валь-Закат
أحكام الأضحية والذكاة
Издатель
دار الثقة للنشر والتوزيع
Номер издания
الأولى
Год публикации
١٤١٢ هـ - ١٩٩٢ م
Место издания
مكة المكرمة
Жанры
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
خطبة الكتاب
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا.
أما بعد: فإن الأضحية شعيرة من شعائر الإسلام، وعبادة عظيمة قرنها الله تعالى بالصلاة، وجاءت السنة ببيان فضلها ومواظبة النبي ﷺ عليها، ومن أجل ذلك أحببت أن أكتب هذه الرسالة في بيان كثير من أحكامها، وأتبعت ذلك بالكلام على الزكاة وشروطها وآدابها. وقد رتبتها في عشرة فصول:
الفصل الأول: في تعريف الأضحية وحكمها.
الفصل الثاني: في وقت الأضحية.
الفصل الثالث: في جنس ما يضحى به وعمن يجزئ؟
الفصل الرابع: في شروط ما يضحى به، وبيان العيوب المانعة من الإجزاء.
الفصل الخامس: في العيوب المكروهة في الأضحية.
الفصل السادس: فيما تتعين به الأضحية وأحاكمه.
الفصل السابع: فيما يؤكل منها وما يفرق.
2 / 211
الفصل الثامن: فيما يجتنبه من أراد الأضحية.
الفصل التاسع: في الذكاة وشروطها.
الفصل العاشر: في آداب الزكاة ومكروهاتها.
والله أسأل أن يجعل عملي خالصًا لوجهه، موافقًا لمرضاته، نافعًا لعباده، إنه قريب مجيب.
المؤلف
2 / 212
الفصل الأول في تعريف الأضحية وحكمها
الأضحية: ما يذبح من بهيمة الأنعام أيام الأضحى بسبب العيد؛ تقربًا إلى الله ﷿.
وهي من العبادات المشروعة في كتاب الله وسنة رسوله النبي صلى الله عليه وعلي آله وسلم وإجماع المسلمين.
فأما كتاب الله: فقد الله تعالي: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (الكوثر: ٢) وقال تعالي: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام: ١٦٢، ١٦٣) .
وقال تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا) (الحج: ٣٤) .
وهذه الآية تدل على أن الذبح تقربًا إلى الله تعالي مشروع في كل ملة لكل أمة، وهو برهان بين على أنه عباده ومصلحة في كل زمان ومكان وأمَة.
وأما سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم: فقد ثبت مشروعية الأضحية فيها بقول النبي صلي الله عليه وسلم وفعله وإقراره، فاجتمعت فيها أنواع السنة الثلاثة: القول، والفعل، والتقرير.
ففي: «الصحيحين» عن البراء بن عازب ﵁ أن النبي صلي الله عليه وسلم قال:
2 / 213
«من ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه، وأصاب سنة المسلمين» (١) . وفيهما أيضًا عن عقبة بن عامر ﵁ أن النبي صلي الله عليه وسلم قسم بين أصحابه ضحايا، فصارت لعقبة جذعة، فقال: يا رسول الله؛ صارت لي جذعة. فقال «ضح بها» (٢) .
وفي «الصحيحين» أيضًا عن أنس بن مالك ﵁ قال: ضحى النبي صلي الله عليه وسلم بكبشين أملحين ذبحهما بيده، وسمي وكبر ووضع رجله على صفاحهما (٣) . وعن عبد الله بن عمر ﵄ قال: أقام النبي ﷺ بالمدينة عشر سنين يضحي. رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن (٤) .
وفي «الصحيحين» أيضًا عن جندب سفيان. البجلي قال: شهدت الأضحى مع رسول الله ﷺ، فلما قضي صلاته بالناس نظر إلى غنم قد ذبحت فقال: «من ذبح قبل الصلاة فليذبح شاة مكانها، ومن لم يكن ذبح فليذبح على اسم الله» هذا لفظ مسلم (٥) .
وعن عطاء بن يسار قال: سألت أبا أيوب الأنصاري: كيف كانت الضحايا فيكم على عهد النبي ﷺ؟ فقال: كان الرجل يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته (الحديث) . رواه ابن ماجه والترمذي وصححه (٦) .
وأما إجماع المسلمين على مشروعية الأضحية فقد نقله غير واحد من أهل العلم.
قال في «في المغني»: أجمع المسلمون على مشروعية الأضحية. وجاء في «فتح الباري شرح صحيح البخاري»: ولا خلاف في كونها من شرائع الدين.
وبعد إجماعهم على مشروعية الأضحية اختلفوا: أواجبة هي أم سنة مؤكدة؟ على قولين:
القول الأول: أنها واجبة، وهو قول الأوزاعي، والليث، ومذهب أبي حنيفة، وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد، قال شيخ الإسلام: وهو أحد القولين في مذهب مالك، أو ظاهر مذهب مالك.
القول الثاني: أنها سنة مؤكدة، وهو قول الجمهور، ومذهب الشافعي، ومالك، وأحمد في المشهور عنهما، لكن صرح كثير من أرباب هذا القول
_________
(١) رواه البخاري، كتاب الأضاحي باب الذبح بعد الصلاة، (٥٥٦٠) ومسلم، كتاب الأضاحي باب وقتها، رقم (١٩٦١) .
(٢) رواه البخاري، كتاب الأضاحي، باب قسمة الإمام الأضاحي بين الناس، رقم (٥٥٤٧) ومسلم كتاب الأضاحي باب سن الأضحية، رقم (١٩٦٥) .
(٣) رواه البخاري، كتاب الأضاحي، باب التكبير عند الذبح، رقم (٥٥٦٥) ومسلم، كتاب الأضاحي، باب استحباب الضحية وذبحها مباشرة (١٩٦٦) .
(٤) رواه أحمد (٢٨/٢) والترمذي، كتاب الأضاحي، باب الدليل على أن الأضحية سنة رقم (١٥٠٧)
(٥) رواه البخاري، كتاب الأضاحي، باب من ذبح قبل الصلاة أعاد، رقم (٥٥٦٢) ومسلم، كتاب الأضاحي، باب وقتها، رقم (١٩٦٠) .
(٦) رواه الترمذي، كتاب الأضاحي، باب ما جاء أن الشاة الواحدة تجزئ عن أهل البيت، رقم (١٥٠٥) وابن ماجه، كتاب الأضاحي، باب من ضحي بشاة عن أهله، رقم (٣١٤٧) .
2 / 214
بأن تركها يكره للقادر، ذكره أصحابنا، نص الإمام أحمد وقطع به في الإقناع، وذكر في «جواهر الإكليل شرح مختصر خليل» . أنها إذا تركها أهل بلد قوتلوا عليها؛ لأنها من شعائر الإسلام.
أدلة القائلين بالوجوب: الدليل الأول: قوله - تعالى ـ: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (الكوثر: ٢) فأمر بالنحر، والأصل في الأمر الوجوب.
الدليل الثاني: قوله ﷺ: «من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا» رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الحاكم من حديث أبي هريرة. (١)
قال في «فتح الباري» ورجاله ثقات.
الدليل الثالث: قوله ﷺ وهو واقف بعرفة: «يا أيها الناس، إن على أهل كل بيت أضحية في كل عام وعتيرة» .
قال في «الفتح»: أخرجه أحمد والأربعة بسند قوي (٢) .
الدليل الرابع: قوله ﷺ «من كان ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يكن ذبح حتى صلينا فليذبح باسم الله» متفق عليه (٣) .
هذه أدلة القائلين بالوجوب، وقد أجاب عنها القائلون بعدم الوجوب واحدًا واحدًا.
فأجابوا عن الدليل الأول: بأنه لا يتعين أن يكون المراد بها نحر القربان، فقد قيل: إن المراد بها وضع اليدين تحت النحر عند القيام في الصلاة، وهذا القول وإن كان ضعيفا لكن مع الاحتمال قد يمتنع الاستدلال.
وإذا قلنا: إن المراد بها نحر القربان كما هو ظاهر القرآن، فإنه لا يتعين أن يكون المراد بها فعل النحر، فقد قيل: إن المراد بها تخصيص النحر لله تعالى وإخلاصه له، وهذا واجب بلا شك ولا نزاع.
وإذا قلنا: المراد بها فعل النحر كما هو ظاهر الآية؛ فهو أمر مطلق يحصل امتثاله بفعل ما ينحر تقربا إلى الله تعالى من أضحية، أو هدي، أو
_________
(١) رواه أحمد (٢/٣٢١) وابن ماجه، كتاب الأضاحي، باب الأضاحي واجبة هي أم لا؟ رقم (٣١٢٣)، والحاكم (٢/٣٨٩) .
(٢) رواه أحمد (٤/٢١٥) وأبو داود، كتاب الأضاحي، باب ما حاء في إيجاب الأضاحي، رقم (٢٧٨٨)، والترمذي، كتاب الأضاحي، باب رقم (١٨) حديث الأضاحي، باب الأضاحي واجبة هي أم لا؟ رقم (٣١٢٥) .
(٣) تقدم تخريجه.
2 / 215
عقيقة ولو مرة واحدة، فلا يتعين أن يكون المراد به الأضحية كل عام.
وهذا تقرير جوابهم عن الآية، وعندي أنه إذا صح الدليل الثالث؛ صار مبينا للآية، وصارت حجة على الوجوب. والله أعلم.
وقد يقال: إن وجوب النحر الذي تدل عليه هذه الآية خاص بالنبي ﷺ شكرا منه لربه على ما أعطاه من الخير الكثير الذي لم يعطه أحد غيره؛ بدليل ترتيبه عليه بالفاء، وبدليل ما يأتي في الدليل الأول للقائلين بعدم الوجوب.
وأجابوا عن الدليل الثاني: بأن الراجح أنه موقوف، ولعل أبا هريرة قاله حين كان واليًا على المدينة، قال في «بلوغ المرام»: رجح الأئمة وقفه، اه. لكن قال في «الدراية»: إن الذي رفعه ثقة.
قلت: وإذا كان الذي رفعه ثقة؛ فالمشهور عند المحدثين أنه إذا تعارض الوقف والرفع، وكان الرافع ثقة فالحكم للرفع؛ لأنه زيادة من ثقة مقبولة، لكن قال في «الفتح»: إنه ليس صريحا في الإيجاب.
قلت: هو ليس بصريح في الإيجاب، إذ يحتمل أن منعه من المسجد، وحرمانه من حضور الصلاة ودعوة المسلمين عقوبة له على ترك هذه الشعيرة، وإن لم تكن واجبة، لكن من أجل تأكدها، لكن هو ظاهر في الإيجاب، ولا يلزم في إثبات الحكم أن يكون الدليل صريحا في الدلالة عليه، بل يكفي الظاهر إذا لم يعارضه ما هو أقوى منه.
وأجابوا عن الدليل الثالث: بأن أحد رواته أبو رملة (عامر) قال في «التقريب»: لا يعرف. وقال الخطابي: مجهول والحديث ضعيف المخرج. وقال المعافري: هذا الحديث ضعيف لا يحتج به.
قلت: وقد سبق أن صاحب «الفتح» وصف سنده بالقوة؛ لكنه قال: لا حجة فيه؛ لأن الصيغة ليست صريحة في الوجوب المطلق، وقد ذكر معها العتيرة، وليست بواجبة عند من قال بوجوب الأضحية. اهـ.
وقد سبق الجواب بأنه لا يلزم في إثبات الحكم أن يكون الدليل صريحا في الدلالة عليه بل يكفي الظاهر إذا لم يعارضه ما هو أقوى منه، وأما ذكر العتيرة معها وهي غير واجبة؛ فقد ورد ما يخرجها عن الوجوب بل عن المشروعية عند كثير من أهل العلم، وهو قوله ﷺ في حديث
2 / 216
أبي هريرة: «لا فرع ولا عتيرة» (١) . متفق عليه. لكن العلة في الدليل جهالة أبي رملة. والله أعلم.
أجابوا عن الدليل الرابع: بأن الأمر إنما هو بذبح بدلها وهو ظاهر؛ لأنهم لما أوجبوها تعينت، وذبحهم إياها قبل الوقت لا يجزئ، فوجب عليهم ضمانها بأن يذبحوا بدلها، ونحن نقول بمقتضى هذا الحديث، وأنه لو أوجب أضحية لوجب عليه ذبح بدلها.
وأما قوله ﷺ: «ومن لم يذبح فليذبح باسم الله» فهو أمر بكون الذبح على اسم الله لا بمطلق الذبح، فلا يكون فيه دليل على وجوب الأضحية.
أدلة القائلين بعدم وجوب:
الدليل الأول: حديث: «هن على فرائض ولكم تطوع: النحر، والوتر، وركعتا الضحى» . أخرجه الحاكم والبزاز وابن عدي، وروى نحوه أحمد، وأبو يعلى، والحاكم (٢)، وذكر في التخليص له طرقا كلها ضعيفة، وقال: أطلق الأئمة على هذا الحديث الضعف كأحمد، والبيهقي، وابن الصلاح، وابن الجوزي، والنووي وغيرهم.
قلت: والضعيف لا يحتج به في إثبات الأحكام.
الدليل الثاني: أن النبي ﷺ ضحى عن أمته، فعن على بن الحسين عن أبي رافع ﵁ أن النبي صلي الله عليه وسلم كان إذا ضحى؛ اشترى كبشين أقرنين سمينين أملحين، فإذا صلى وخطب؛ أتي بأحدهما وهو قائم في مصلاه فذبحه بنفسه بالمدية، ثم يقول: «اللهم هذا عن أمتي جميعا من شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ»، ثم يؤتي بالآخر فيذبحه بنفسه ويقول: «هذا عن محمد، وآل محمد» . فيطعمها جميعا المساكين، ويأكل هو وأهله منهما، فمكثنا سنين ليس لرجل من بني هاشم يضحي قد كفاه الله المؤونة برسول الله ﷺ والغرم. أخرجه أحمد والبزاز (٣)، قال في مجمع الزوائد (٤): وإسناده حسن، سكت عنه في التلخيص، وله شواهد عند أحمد، والطبراني، وأبن ماجه، والبيهقي، والحاكم (٥) .
ووجه الدلالة: أن النبي ﷺ قام بالواجب عن أمته فيكون الباقي تطوعا،
_________
(١) رواه البخاري، كتاب العقيقة، باب الفرع، رقم (٥٤٧٣) ومسلم، كتاب الأضاحي باب الفرع والعتيرة، رقم (١٩٧٦)
(٢) أخرجه أحمد (١/٢٣١)، والحاكم (١/٣٠٠) والبيهقي (٩/٢٦٤)
(٣) أخرجه أحمد (٦/٨٣٩١)، والبزار (٩/٣١٩) وابن ماجه، كتاب الأضاحي باب أضاحي رسول الله النبى صلي الله عليه وعلي آله وسلم، رقم (٣١٢٢) .
(٤) «مجمع الزوائد» (٤/٢٢) .
(٥) راجع: أحمد (٦/٣٩١) والطبراني في «الكبير» (١/٣١١) ابن ماجه رقم (٣١٢٢)، والبيهقي (٩/٢٥٩) والحاكم (٢/٤٢٥)
2 / 217
ولذلك مكث بنو هاشم سنين لا يضحون على مقتضى هذا الحديث.
الدليل الثالث: قوله ﷺ: «إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي؛ فليمسك عن شعره وأظفاره» رواه الجماعة إلا البخاري (١)، وفي رواية لمسلم: «فلا يمس من شعره وبشره شيئا» (٢)
ووجه الدلالة: أن النبي ﷺ فوض الأضحية إلى الإرادة، وتفويضها إلى الإرادة ينافي وجوبها، إذ الوجوب لزوم لا يفوض إلى الإرادة، هكذا قالوا.
وعندي أن التفويض إلى الإرادة لا ينافي الوجوب إذا قام عليه الدليل، فقد قال النبي ﷺ في المواقيت: «هن لهن ولمن أتي عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج والعمرة» (٣) . ولم يمنع ذلك من وجوب الحج والعمرة بدليل آخر مرة في العمر، فالتعليق على الإرادة ليس معناه أن الإنسان مخير في المراد على الإطلاق، فقد يجب أن يريد إذا قام مقتضى الوجوب، وقد لا يجب أن يريد إذا لم يكن دليل على الوجوب، كما لو قلت: يجب الوضوء على من أراد الصلاة. والصلاة منها ما تجب إرادته كالفريضة، ومنها ما لا تجب كالتطوع. وأيضا فالأضحية لا تجب على المعسر فهو غير مريد لها، فصح تقسيم الناس فيها إلى مريد وغير مريد باعتبار اليسار والإعسار.
الدليل الرابع: أنه صح عن أبي بكر وعمر ﵄ أنهما لا يضحيان مخافة أن يظن أن الأضحية واجبة (٤) . وعن أبي مسعود ﵁ أنه قال: أني لأدع الأضحية، وأنا من أيسركم، كراهة أن يعتقد الناس أنها حتم واجب. أخرجه سعيد بن منصور بسند صحيح، وذكره البيهقي عن ابن عباس وابن عمر وبلال ﵃ (٥) .
قلت: وإذا صح الوجوب عن رسول الله ﷺ لم يكن قول غيره حجة عليه.
الدليل الخامس: التمسك بالأصل، فإن الأصل براءة الذمة حتى يقوم دليل الوجوب السالم من المعارضة.
قلت: وهذا دليل قوي جدا لكن القائلين بالوجوب يقولون: إنه قد
_________
(١) رواه مسلم، كتاب الأضاحي، باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة وهو مريد..، رقم (١٩٧٧) وأبو داود، كتاب الضحايا باب الرجل يأخذ من شعره في العشر، رقم (٢٩٧١)، والترمذي، كتاب الأضاحي، باب من ترك أخذ الشعر لمن أراد أن يضحي، رقم (١٥٢٣)، والنسائي، كتاب الضحايا باب رقم (١) حديث رقم (٤٣٦١)، وابن ماجه، كتاب الأضاحي، باب من أراد أن يضحي فلا يأخذ في العشر..، رقم ٠٣١٤٩)
(٢) رواه مسلم، كتاب الأضاحي، رقم (١٩٧٧)
(٣) رواه البخاري، كتاب الحج، باب مهل أهل الشام، رقم (١٥٢٦)، ومسلم، كتاب الحج باب مواقيت الحج والعمرة، رقم (١١٨١)
(٤) «السنن الكبري) للبيهقي (٩/٢٦٤) .
(٥) «السنن الكبري» البيهقي (٩/٢٦٥)
2 / 218
قام دليل الوجوب السالم من المعارضة فثبت الحكم.
الدليل السادس: أن رجلا قال: يا رسول الله، أرايت إن لم أجد إلا منيحة أنثى أفأضحي بها؟ قال: «لا، ولكن تأخذ من شعرك وأظفارك وتقص شاربك، وتحلق عانتك، فتلك تمام أضحيتك عند الله ﷿) . رواه أبو داود والنسائي، ورواته ثقات (١) . والمنيحة: شاة اللبن تعطى للفقير يحلبها ويشرب لبنها ثم يردها، وهذا سنة، ولو كانت الأضحية واجبة لم تترك من أجل فعل السنة، إذ المسنون لا يعارض الواجب. وهذا تقرير جيد وفيه تأمل.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه: والأظهر وجوبها (يعني الأضحية) فإنها من أعظم شعائر الإسلام، وهي النسك العام في جميع الأمصار، والنسك مقرون بالصلاة، وهي من ملة إبراهيم الذي أمرنا باتباع ملته، وقد جاءت الأحاديث بالأمر بها، ونفاه الوجوب ليس معهم نص، فإن عمدتهم قوله ﷺ: «من أراد أن يضحي ودخل العشر فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره» (٢) . قالوا: والواجب لا يعلق بالإرادة، وهذا كلام مجمل، فإن الواجب لا يوكل إلى إرادة العبد، فيقال: إن شئت فافعله، بل يعلق الواجب بالشرط لبيان حكم من الأحكام.
قلت: مثل أن تقول: إذا أردت أن تصلي الظهر فتوضأ، فصلاة الظهر واجبة لكن تعليقها بالإرادة لبيان حكم الوضوء لها.
قال شيخ الإسلام في بقية كلامه على الأضحية: ووجوبها مشروط بأن يقدر عليها فاضلا عن حوائجه الأصلية كصدقة الفطر. اهـ. ملخصًا من «مجموع الفتاوى» لابن قاسم (من ص١٦٢ - ١٦٤ - مجلد ٣٢) .
هذه آراء العلماء وأدلتهم سقناها ليبين شأن الأضحية وأهميتها في الدين، والأدلة فيها تكاد تكون متكافئة، وسلوك سبيل الاحتياط أن لا يدعها مع القدرة عليها، لما فيها من تعظيم الله وذكره وبراءة الذمة بيقين.
_________
(١) رواه أبو داود، كتاب الضحايا، باب ما جاء في إيجاب الضاحي، رقم (٢٧٨٩) والنسائي، كتاب الضحايا باب من لم يجد الأضحية، رقم (٤٣٦٥) .
(٢) سبق تخريجه ص١٢
2 / 219
فصل
وذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها، نص عليه الإمام أحمد ﵀، قال ابن القيم - وهو أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيميه البارزين ـ: «الذبح في موضعه أفضل من الصدقة بثمنه، ولو زاد (يعني ولو زاد في ثمنه فتصدق بأكثر منه) كالهدايا والضحايا، فإن نفس الذبح وإراقة الدم مقصود، فإنه عبادة مقرونة بالصلاة كما قال تعالى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (الكوثر: ٢)، وقال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام: ١٦٢)، ففي كل ملة صلاة ونسيكة لا يقوم غيرهما مقامهما، ولهذا لو تصدق عن دم المتعة والقران أضعاف القيمة؛ لم يقم مقامه، وكذلك الأضحية. اهـ.
ويدل على أن ذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها: أنه هو عمل النبي ﷺ والمسلمين، فإنهم كانوا يضحون، ولو كانت الصدقة بثمن الأضحية أفضل؛ لعدلوا إليها وما كان رسول الله ﷺ ليعمل عملا مفضولا يستمر عليه منذ أن كان في المدينة إلى أن توفاه الله مع وجود الأفضل وتيسره ثم لا يفعله مرة واحدة، ولا يبين ذلك لأمته بقوله، بل استمرار النبي ﷺ والمسلمين معه على الأضحية يدل على أن الصدقة بثمن الأضحية لا تساوي ذبح الأضحية فضلا عن أن تكون أفضل منه، إذ لو كانت تساويه لعملوا بها أحيانا؛ لأنها أيسر وأسهل، أو تصدق بعضهم وضحى بعضهم كما في كثير من العبادات المتساوية، فلما لم يكن ذلك؛ علم أن ذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها.
ويدل على أن ذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها: أن الناس أصابهم ذات سنة مجاعة في عهد النبي ﷺ في زمن الأضحية، ولم يأمرهم بصرف ثمنها إلى المحتاجين، بل أقرهم على ذبحها، وأمرهم بتفريق لحمها كما في الصحيحين عن سلمة بن الأكوع ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثة في بيته شيء» فلما كان العام المقبل قالوا: يا رسول الله، نفعل كما فعلنا في العام الماضي؟ فقال ﷺ: «كلوا وأطعموا وادخروا، فإن ذلك العام كان في الناس جهد فأردت أن تعينوا فيها» (١) .
_________
(١) رواه البخاري، كتاب الأضاحي، باب ما يؤكل من لحوم الأضاحي ومايتزود منها، رقم (٥٥٦٩)، ومسلم، كتاب الأضاحي باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث، رقم (١٩٧٤) .
2 / 220
وفي صحيح البخاري أن عائشة ﵁ سئلت: أنهى رسول الله ﷺ عن لحوم الأضاحي أن تؤكل فوق ثلاث؟ فقالت: ما فعله إلا عام جاع الناس فيه فأراد أن يطعم الغني الفقير (١) .
ويدل على أن ذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها: أن العلماء اختلفوا في وجوبها، وأن القائلين بأنها سنة صرح أكثرهم أو كثير منهم بأنه يكره تركها للقادر، وبعضهم صرح بأنه يقاتل أهل بلد تركوها، ولم نعلم أن مثل ذلك حصل في مجرد الصدقة المسنونة.
ويدل على أن ذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها: أن الناس لو عدلوا عنه إلى الصدقة؛ لتعطلت شعيرة عظيمة نوه الله عليها في كتابه في عدة آيات، وفعلها رسول الله ﷺ وفعلها المسلمون، وسماها رسول الله ﷺ سنة المسلمين.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه: فكيف يجوز أن المسلمين كلهم يتركون هذا لا يفعله أحد منهم، وترك المسلمين كلهم هذا أعظم من ترك الحج في بعض السنين، كذا قال.
قال: وقد قالوا إن الحج كل عام فرض على الكفاية؛ لأنه من شعائر الإسلام، والضحايا في عيد النحر كذلك، بل هذه تفعل في كل بلد هي والصلاة، فيظهر بها من عبادة الله وذكره والذبح له والنسك له ما لا يظهر بالحج كما يظهر ذكر الله بالتكبير في الأعياد. اهـ. .
والأصل في الأضحية أنها للحي كما كان النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه يضحون عن أنفسهم وأهليهم خلافا لما يظنه بعض العامة أنها للأموات فقط.
وأما الأضحية عن الأموات؛ فهي ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن تكون تبعا للأحياء، كما لو ضحى الإنسان عن نفسه وأهله وفيهم أموات، فقد كان النبي صلي الله عليه وسلم يضحي ويقول: «اللهم هذا عن محمد وعن آل محمد» (٢) وفيهم من مات سابقا.
القسم الثاني: أن يضحي عن الميت استقلالا تبرعا، مثل: أن يتبرع لشخص ميت مسلم بأضحية، فقد نص فقهاء الحنابلة على أن ذلك من الخير، وأن ثوابها يصل إلى الميت وينتفع به؛ قياسا على الصدقة عنه، ولم ير
_________
(١) رواه البخاري، كتاب الأطعمة باب ما كان السلف يدخرون في بيوتهم واسفارهم..، رقم (٥٤٢٣) .
(٢) سبق تخريجه
2 / 221
بعض العلماء أن يضحي أحد عن الميت إلا أن يوصي به. لكن من الخطأ ما يفعله بعض الناس اليوم يضحون عن الأموات تبرعا أو بمقتضى وصاياهم، ثم لا يضحون عن أنفسهم وأهليهم الأحياء، فيتركون ما جاءت به السنة، ويحرمون أنفسهم فضيلة الأضحية، وهذا من الجهل، وإلا فلو علموا بان السنة أن يضحي الإنسان عنه وعن أهل بيته فيشمل الأحياء والأموات، وفضل الله واسع.
القسم الثالث: أن يضحي عن الميت بموجب وصية منه تنفيذا لوصيته، فتنفذ كما أوصى بدون زيادة ولا نقص، والأصل في ذلك قوله تعالى في الوصية: (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: ١٨١) . وروي عن على بن أبي طالب ﵁ أنه ضحى بكبشين وقال: إن رسول الله ﷺ اوصاني أن أضحي عنه فأنا أضحي عنه. رواه أبو داود، ورواه بنحوه الترمذي وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث شريك (١) . اهـ. قلت: وفي إسناده مقال.
وإذا كانت الوصية بأضاحي متعددة ولم يكف المغل لتنفيذها مثل أن يوصي شخص بأربع ضحايا: واحدة لأمه، وواحدة لأبيه وواحدة لأولاده، وواحد لأجداده وجداته، ولم يكف المغل إلا لواحدة فإن تبرع الوصي بتكميل الضحايا الأربع من عنده فنرجو أن يكون حسنا، وإن لم يتبرع جمع الجميع في أضحية واحدة كما لو ضحى عنهم في حياته.
وإن كانت الوصية في أضحية واحدة ولم يكف المغل لها فإن تبرع الوصي بتكميلها من عنده فنرجو أن يكون حسنا، وإن لم يتبرع أبقى المغل إلى السنة الثانية والثالثة حتى يكفي الأضحية فيضحي به، فإن كان المغل ضئيلا لا يكفي لأضحية إلا بعد سنوات يخشى من ضياعه في إبقائه إليها، أو من أن تزايد قيم الأضاحي فإن الوصي يتصدق بالمغل في عشر ذي الحجة ولا يبقيه؛ لأنه عرضة لتلفه، وربما تتزايد قيم الأضاحي كل عام، فلا يبلغ قيمة الأضحية مهما جمعه، فالصدقة به خير.
_________
(١) رواه أبو داود، كتاب الضحايا باب الأضحية عن الميت، رقم (٢٧٩٠) والترمذي، كتاب الأضاحي باب ما جاء في الأضحية عن الميت، رقم (١٤٩٥)
2 / 222
واخترنا أن يتصدق به في عشر ذي الحجة؛ لأنه الزمن الذي عين الموصي تنفيذ وصيته فيه، ولأن العشر أيام فاضلة، والعمل الصالح فيها محبوب إلى الله ﷿، قال النبي صلي الله عليه وسلم: «ما من أيام العمل الصالح فيها محبوب إلى الله من هذه الأيام العشر» وقالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء» (١) .
(تنبيه عام): يذكر بعض الموصين في وصيته قدرًا معينًا للموصي به مثل أن يقول: يضحي عني ولو بلغت الأضحية ريالا. يقصد المغالاة في ثمنها؛ لأنها في وقت وصيته بربع ريال أو نحوه، فيقوم بعض من لا يخشى الله من الأوصياء فيعطل الوصية بحجة أن الريال لا يمكن أن يبلغ ثمن الأضحية الآن، وهذا حرام عليه، وهو آثم بذلك، ويجب تنفيذ الوصية بالأضحية، وإن بلغت آلاف الريالات مادام المغل يكفي لذلك؛ لأن مقصود الموصي معلوم، وهو المبالغة في قيمة الأضحية مهما زادت، وذكره الريال على سبيل التمثيل، لا على سبيل التحديد.
_________
(١) رواه البخاري، كتاب العيدين باب فضل العمل في أيام التشريق، رقم (٩٦٩) وأبو داود، كتاب الصوم، باب في صوم العشر، رقم ٠٢٤٣٨) والترمذي، كتاب الصوم باب ما جاء في العمل في أيام العشر، رقم (٧٥٧) وابن ماجه، كتاب الصيام، باب صيام العشر، رقم (١٧٢٧) .
2 / 223
الفصل الثاني في وقت الأضحية
الأضحية عبادة موقتة لا تجزئ قبل وقتها على كل حال، ولا تجزئ بعده إلا على سبيل القضاء إذا أخرها لعذر.
وأول وقتها بعد صلاة العيد لمن يصلون كأهل البلدان، أو بعد قدرها من يوم العيد لمن لا يصلون كالمسافرين وأهل البادية، فمن ذبح قبل الصلاة فشاته شاة لحم، وليست بأضحية ويجب عليه ذبح بدلها على صفتها بعد الصلاة؛ لما روى البخاري عن البراء بن عازب ﵁ أن النبي ﷺ قال: «من ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله، وليس من النسك في شيء» (١)، وفيه عن أنس بن مالك ﵁ أن النبي ﷺ قال: «ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه، وأصاب سنة المسلمين» (٢) . وفيه أيضا عن جندب بن سفيان البجلي ﵁ قال شهدت النبي ﷺ قال «من ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى» (٣) .
والأفضل أن يؤخر الذبح حتى تنتهي الخطبتان؛ لأن ذلك فعل النبي صل الله عليه وسلم، قال جندب بن سفيان البجلي ﵁: صلى النبي ﷺ يوم النحر ثم خطب ثم ذبح. الحديث رواه البخاري (٤) .
والأفضل أن لا يذبح حتى يذبح الإمام إن كان الإمام يذبح في المصلى اقتداء بالنبي ﷺ وأصحابه، ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر ﵄ قال: كان النبي ﷺ يذبح وينحر بالمصلى (٥) . يعنى يبرز أضحيته عند المصلى العيد فيذبحها هناك؛ إظهارًا لشعائر الله، وليعلم الناس بالفعل كيفية ذبح الأضحية، وليسهل تناول الفقراء منها، وليس المعنى أنه
_________
(١) رواه البخاري، كتاب الأضاحي، باب سنة الأضحية، برقم (٥٥٤٥) / ومسلم، كتاب الأضاحي، باب وقتها، رقم (١٩٦١)
(٢) تقدم تخريجه
(٣) تقدم تخريجه
(٤) رواه البخاري، كتاب العيدين باب كلام الإمام والناس في خطبة العيد، رقم (٩٨٥) .
(٥) رواه البخاري، كتاب العيدين باب النحر والذبح بالمصلي يوم العيد. رقم (٩٨٢)
2 / 225
يذبحها في نفس المصلى؛ لأنه مسجد، والمسجد لا يلوث بالدم والفرث.
وفي صحيح البخاري أيضا عن أنس بن مالك ﵁ أن النبي ﷺ لما خطب يوم عيد الأضحى قال: فانكفأ إلى كبشين - يعنى فذبحهما - ثم انكفأ الناس إلى غنيمة فذبحوها (١) .
وعن جابر ﵁ قال: صلى بنا رسول الله ﷺ يوم النحر بالمدينة فتقدم رجال فنحروا وظنوا أن النبي ﷺ قد نحر، فأمر النبي ﷺ من كان نحر قبله أن يعيد بنحر آخر، ولا ينحروا حتى ينحر النبي ﷺ رواه أحمد ومسلم (٢) .
وينتهي وقت الأضحية بغروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق، وهو اليوم الثالث عشر من ذي الحجة، فيكون الذبح في أربعة أيام: يوم العيد، واليوم الحادي عشر، واليوم الثاني عشر، واليوم الثالث عشر. وثلاث ليال: ليلة الحادي عشر، وليلة الثاني عشر، وليلة الثالث عشر.
هذا هو القول الراجح من أقوال أهل العلم، وبه قال علي بن أبي طالب ﵁ -في إحدى الروايتين عنه، قال ابن القيم: وهو مذهب إمام أهل البصرة الحسن البصري، وإمام أهل الشام الأوزاعي، وإمام فقهاء أهل الحديث الشافعي، واختاره ابن المنذر.
قلت: واختاره الشيخ تقي الدين بن تيميه وهو ظاهر ترجيح ابن القيم لقوله تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ) (الحج: ٢٨) (٣) . قال ابن عباس ﵄: الأيام المعلومات: يوم النحر، وثلاثة أيام بعده (٤) . وعن جبير بن مطعم ﵁ أن النبي ﷺ قال: «كل أيام التشريق ذبح» رواه أحمد، والبيهقي، وابن حبان في صحيحه (٥)، وأعل بالانقطاع لكن يؤيده قوله ﷺ: «أيام التشريق أكل وشرب وذكر لله ﷿) . رواه مسلم (٦) . فجعل النبي ﷺ باب هذه الأيام واحدا في كونها أيام ذكر لله ﷿، وهذا يتناول الذكر المطلق والذكر المقيد على بهيمة الأنعام، ولأن هذه الأيام مشتركة في جميع
_________
(١) رواه البخاري، كتاب الأضاحي، باب من ذبح قبل الصلاة أعاد، رقم (٥٥٦١) .
(٢) رواه مسلم، كتاب الأضاحي، باب سن الأضحية، (١٩٦٤) وأحمد (٣/٢٩٤)
(٣) ذكر اسم الله على ذلك يتناول ذكر اسمه عند ذبحها وعند أكلها. (المؤلف)
(٤) رواه ابن حاتم في تفسيره (٨/٢٤٨٩)
(٥) رواه أحمد (٤/٨٢) والبيهقي (٩/٢٥٦)، وابن حبان (٩/١٦٦)
(٦) رواه مسلم، كتاب الصيام/ باب تحريم صوم أيام التشريق، رقم (١١٤١)
2 / 226
الأحكام ما عدا محل النزاع، فكلها أيام منى، وأيام رمي للجمار، وأيام ذكر لله وصيامها حرام، فما الذي يخرج الذبح عن ذلك حتى يختص منها باليومين الأولين؟
والذبح في النهار أفضل، ويجوز في الليل؛ لأن الأيام إذا أطلقت دخلت فيها الليالي، ولذلك دخلت الليالي في الأيام في الذكر حيث كانت وقتا له كما كان النهار وقتا له، فكذلك تدخل في الذبح فتكون وقتا له كالنهار.
ولا يكره الذبح في الليل؛ لأنه لا دليل على الكراهة، والكراهة حكم شرعي يفتقر إلى دليل.
وأما ما روى عن ابن عباس ﵄ أن النبي ﷺ نهى عن الذبح ليلا، فقال في «التلخيص»: فيه سليمان بن سلمة الخبائري، وهو متروك (١) .
وأما قول بعضهم: يكره الذبح ليلا خروجا من الخلاف؛ فالتعليل ليس حجة شرعية، قال شيخ الإسلام ابن تيمبة: تعليل الأحكام بالخلاف علة باطلة في نفس الأمر، فإن الخلاف ليس من الصفات التي يعلق الشارع بها الأحكام، فإنه وصف حادث بعد النبي ﷺ ولكن يسلكه من لم يكن عارفا بالأدلة الشرعية في نفس الأمر لطلب الاحتياط. اهـ.
وكثير من المسائل الخلافية لم يراع فيها جانب الخلاف، ولم يؤثر الخلاف فيها شيئا، وها هو الخلاف هنا ثابت في امتداد وقت ذبح الأضحية إلى ما بعد يوم النحر. ولم يقل القائلون بامتداده أنه يكره الذبح فيما بعد يوم العيد، لكن إن قوي دليل المخالف بحيث يثير شبهة؛ كانت مراعاته من باب: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (٢) .
_________
(١) «تلخيص الحبير» (٤/١٤٢)
(٢) ذكره البخاري تعليقًا في كتاب البيوع، باب تفسير المشبهات، ورواه الترمذي من حديث حسن بن على مرفوعًا، كتاب صفة القيامة باب رقم (٦٠) حديث رقم (٢١٥٨) وصححه (٦/١٥٣) .
2 / 227
الفصل الثالث في جنس ما يضحى به وعمن يجزئ؟
الجنس الذي يضحى به: بهيمة الأنعام فقط لقوله تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ) (الحج: ٣٤) . وبهيمة الأنعام هي: الإبل، والبقر، والغنم من ضأن ومعز، جزم به ابن كثير وقال: قاله الحسن وقتادة وغير واحد، قال ابن جرير: وكذلك هو عند العرب. اهـ. ولقوله ﷺ: «لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن» . رواه مسلم (١) . والمسنة: الثنية فما فوقها من الإبل والبقر والغنم، قاله أهل العلم ﵏.
ولأن الأضحية عبادة كالهدي، فلا يشرع منها إلا ما جاء عن رسول الله ﷺ، ولم ينقل عنه ﷺ أنه أهدى أو ضحى بغير الإبل والبقر والغنم. والأفضل منها: الإبل ثم البقر ثم الضأن ثم المعز ثم سبع البعير ثم سبع البقرة.
والأفضل من كل جنس أسمنه، وأكثره لحما، وأكمله خلقة، وأحسنه منظرًا، وفي «صحيح البخاري» عن أنس بن مالك ﵁ أن النبي ﷺ كان يضحي بكبشين أقرنين أملحين (٢) . والأملح ما خالط بياضه سواد.
وعن أبي سعيد الخدري ﵁ قال: ضحى رسول الله ﷺ بكبش أقرن فحيل يأكل في سواد، وينظر في سواد، ويمشي في سواد. أخرجه الأربعة. وقال الترمذي: حسن صحيح (٣) .
وعن أبي رافع مولى
_________
(١) رواه مسلم كتاب الأضاحي باب سن الأضحية، رقم (١٩٦٣)
(٢) تقدم تخريجه
(٣) رواه أبو داود، كتاب الضحايا باب ما يستحب من الضحايا، رقم (٢٧٩٦)، والترمذي، كتاب الأضاحي باب ما يستحب من الأضاحي رقم (١٤٩٦)، والنسائي، كتاب الضحايا، باب الكبش رقم (٤٣٩٠) وابن ماجه كتاب الأضاحي باب ما يستحب من الأضاحي (٣١٢٨) .
2 / 229
النبي ﷺ قال: كان النبي ﷺ إذا ضحى اشترى كبشين سمينين، وفي لفظ: موجوأين يعنى خصيين. رواه أحمد (١) . فالفحل أفضل من الخصي من حيث كمال الخلقة؛ لأن جميع أعضائه لم يفقد منها شيء، والخصي أفضل من حيث أنه أطيب لحما في الغالب.
فصل
وتجزئ الواحدة من الغنم عن الشخص الواحد، ويجزئ سبع البعير أو البقرة عما تجزئ عنه الواحدة من الغنم؛ لحديث جابر ﵁ قال: نحرنا مع رسول الله ﷺ عام الحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة. رواه مسلم (٢) . وفي رواية قال خرجنا مع رسول الله ﷺ مهلين بالحج فأمرنا رسول الله ﷺ أن نشترك في الإبل والبقر، كل سبعة منا في بدنة (٣) .
ففي هذا دليل على أن سبع البعير أو البقرة قائم مقام الواحدة من الغنم، ومجزئ عما تجزئ عنه؛ لأن الواجب في الإحصار والتمتع هدي على كل واحد، وقد جعل النبي ﷺ البدنة عن سبعة فدل على أن سبعها يحل محل الواحدة من الغنم ويكون بدلا عنها والبدل له حكم المبدل.
فأما اشترك عدد في واحدة من الغنم أو في سبع بعير أو بقرة؛ فعلى وجهين:
الوجه الأول: الاشتراك في الثواب، بأن يكون مالك الأضحية واحد ويشرك معه غيره من المسلمين في ثوابها فهذا جائز مهما كثر الأشخاص فإن فضل الله واسع، وفي صحيح مسلم عن عائشة ﵂ في قصة أضحيته بكبش قال لها: «يا عائشة، هلمي المدية» (يعني السكين) ثم قال: «اشحذيها بحجر» ففعلت، ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه ثم قال «بسم الله، اللهم تقبل من محمد ومن آل محمد ومن أمة محمد» ثم ضحي به (٤) .
وفي مسند الإمام أحمد من حديث عائشة وأبي رافع ﵄ أن النبي ﷺ كان يضحي بكبشين: أحدهما عنه وعن آله، والآخر عن أمته جميعا (٥) .
_________
(١) رواه أحمد ٠٦/٢٢) وابن ماجه كتاب الاضاحي باب أضاحي رسول الله اصلى الله عليه وسلم رقم (٣١٢٢)
(٢) رواه مسلم، كتاب الحج باب الاشتراك في الهدي، رقم (١٣١٨)
(٣) انظر الحديث السابق.
(٤) رواه مسلم، كتاب الأضاحي، باب استحباب الأضحية وذبحها مباشرة، رقم (١٩٦٧) .
(٥) رواه أحمد (٦/٨)
2 / 230
ومن حديث جابر وأبي سعيد ﵄ يضحي بكبش عنه وعمن لم يضح من أمته (١) .
وعن أبي أيوب الأنصاري ﵁ قال: كان الرجل في عهد النبي ﷺ يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون، رواه ابن ماجه والترمذي وصححه (٢) .
فإذا ضحى الرجل بالشاة عنه وعن أهل بيته أو من شاء من المسلمين صح ذلك، وإذا ضحى بسبع البعير أو البقرة عنه وعن أهل بيته أو من شاء من المسلمين صح ذلك، لما سبق من أن النبي ﷺ جعل السبع منهما قائما مقام الشاة في الهدي، فكذلك في الأضحية ولا فرق.
ومن تراجم صاحب «المنتقى»: باب أن البدنة من الإبل والبقر عن سبع شياه وبالعكس. وقال في كتابه المحرر: ويجزئ عن الشاة سبع من بدنة، وعن البدنة بقرة، وقال في «الكافي» في تعليل له: لأن كل سبع مقام شاة.
الوجه الثاني: الاشتراك في الملك، بأن يشترك شخصان فأكثر في ملك أضحية ويضحيا بها، فهذا لا يجوز، ولا يصح أضحية إلا في الإبل والبقر إلى سبعة فقط، وذلك لأن الأضحية عبادة وقربة إلى الله تعالى، فلا يجوز إيقاعها ولا التعبد بها إلا على الوجه المشروع زمنًا وعددًا وكيفية.
فإن قيل: لماذا لا يصح وقد قال الله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) (الزلزلة: ٧) . وكما لو اشتركا في شراء لحم فتصدقا به ولكل منهما من الأجر بحسبه؟
فالجواب: أنه ليس المقصود من الأضحية مجرد اللحم للانتفاع أو الصدقة به، وإنما المقصود بالأضحية إقامة شعيرة من شعائر الله على الوجه الذي شرعه الله ورسوله، فوجب تقييدها بحسب ما جاء به الشرع، ولذلك فرق النبي ﷺ بين شاة اللحم وشاة النسك حيث قال: «من ذبح قبل الصلاة فشاته شاة اللحم أو فهو لحم قدمه لأهله، ومن ذبح بعد الصلاة؛ فقد أصاب النسك - أو قال: فقد تم نسكه، وأصاب سنة المسلمين» (٣)، كما فرق ﷺ في زكاة الفطر بين ما دفع قبل الصلاة وما دفع بعدها، فالأول زكاة مقبولة،
_________
(١) رواه الترمذي، كتاب الاضاحي باب رقم (٢٠) حديث رقم (١٥٢١) وأحمد (٣/٨، ٣/٣٥٦) .
(٢) تقدم تخريجه
(٣) سبق تخريجه
2 / 231
والثاني صدقة من الصدقات، مع أن كلا منهما صاع من طعام، لكن لما كان المدفوع قبل الصلاة على وفق الحدود الشرعية؛ كان زكاة مقبولة، ولما كان المدفوع بعدها على غير وفق الحدود الشرعية؛ لم يكن زكاة مقبولة، وهذه هي القاعدة العامة الشرعية. قال النبي ﷺ: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» (١)، أي: مردود على صاحبه، وإن كانت نيته حسنة؛ لعموم الحديث.
ولو كان التشريك في الملك جائزا في الأضحية بغير الإبل والبقر؛ لفعله الصحابة ﵃؛ لقوة المقتضى لفعله فيهم، فإنهم كانوا أحرص الناس على الخير، وفيهم فقراء كثيرون قد لا يستطيعون ثمن الأضحية كاملة، ولو فعلوه لنقل عنهم؛ لأنه مما تتوفر الدواعي على نقله لحاجة الأمة إليه.
ولا أعلم في ذلك حديثا إلا ما رواه الإمام أحمد من حديث أبي الأشد عن أبيه عن جده قال: كنت سابع سبعة مع رسول الله ﷺ، فأمرنا نجمع لكل واحد منا درهمًا فاشترينا أضحية بسبعة دراهم فقلنا: يا رسول الله، لقد أغلينا بها فقال: «إن أفضل الضحايا أغلاها وأسمنها» فأمر رسول الله ﷺ فأخذ رجل برجل، ورجل برجل، ورجل بيد، ورجل بيد، ورجل بقرن، ورجل بقرن، وذبحها السابع وكبرنا عليها جميعا (٢) .
قال الهيثمي: أبو الأشد لم أجد من وثقه ولا من جرحه، وكذلك أبوه. اه،. وقال في بلوغ الأماني شرح ترتيب المسند»: والظاهر أن هذه الأضحية كانت من البقر؛ لأن الكبش لا يجزئ عن سبعة، والبعير لا قرون له، والبقرة هي التي تجزئ عن سبعة ولها قرون، فتعين أن تكون من البقر والله أعلم. وما استظهره ظاهر، ويؤيده أن الكبش لا يحتاج أن يمسك به السبعة، وفي إمساكهم به عسر وضيق، ويكفي في إمساكه واحد، اللهم إلا أن يقال: إن تكلف إمساكهم به ليس من أجل استعصائه؛ بل من أجل أن يحصل اشتراك الجميع في ذبحه، والله أعلم.
ونزل ابن القيم هذا الحديث على معنى آخر وهو أن هؤلاء السبعة كانوا رفقة واحدة فنزلهم النبي ﷺ منزلة أهل البيت الواحد في إجزاء الشاة
_________
(١) رواه مسلم، كتاب الأضحية، باب نقض الأحاكم الباطلة، رقم (١٧١٨)
(٢) رواه أحمد (٣/٤٢٤)
2 / 232