День в доме Пророка
يوم في بيت الرسول
Издатель
دار القاسم
Жанры
المقدمة
الحمد لله الذي بعث رسوله بالهدى ودين الحق، والصلاة والسلام على إمام المرسلين المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن غالب الناس في هذا الزمن بين غالٍ وجافٍ، فمنهم من غلا في الرسول ﷺ حتى وصل به الأمر إلى الشرك -والعياذ بالله- من دعا الرسول ﷺ والاستغاثة به، وفيهم من غفل عن اتباع هديه ﷺ وسيرته فلم يتخذها نبراسًا لحياته ومعلمًا لطريقه.
ورغبة في تقريب سيرته ودقائق حياته إلى عامة الناس بأسلوب سهل ميسر كانت هذه الورقات القليلة التي لا تفي بكل ذلك. لكنها وقفات ومقتطفات من صفات النبي ﷺ وشمائله، ولم أستقصها، بل اقتصرت على ما أراه قد تفلت من حياة الناس، مكتفيًا عند كل خصلة ومنقبة بحديثين أو ثلاثة، فقد كانت حياته ﷺ حياة أمة وقيام دعوة ومنهاج حياة .. وهو ﵊ أمة في الطاعة والعبادة، وكرم الخلق وحسن المعاملة، وشرف المقام، ويكفي ثناء الله ﷿ عليه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾.
وأهل السنة والجماعة ينزلون الرسول ﷺ منزلته التي أنزله الله إياها، فهو عبد الله ورسوله وخليله وصفيه، يحبونه أكثر من أولادهم وآبائهم بل أكثر من أنفسهم لكنهم لا يغلون فيه ولا يطرونه وحسبه تلك المنزلة.
1 / 3
ونحن على هذا الأمر سائرون فلا نبتدع الموالد ولا نقيم الاحتفالات، بل نحبه كما أمر ونطيعه فيما أمر، ونجتنب ما نهى عنه وزجر.
فمبلغ العلم فيه أنه بشر ... وأنه خير خلق الله كلهم
أغر عليه للنبوة خاتم ... من نور يلوح ويشهد
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا أحمد
وإن فاتنا في هذه الدنيا رؤية الحبيب ﷺ وتباعدت بيننا الأيام .. فأدعو الله ﷿ أن نكون ممن قال فيهم الرسول ﷺ: «وددت أنا قد رأينا إخواننا» قالوا: ألسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: «أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد» فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ فقال: «أرأيت لو أن رجلًا له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم ألا يعرف خيله»؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «فإنهم يأتون غرًا محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض ...» (١).
_________
(١) رواه مسلم.
1 / 4
أدعو الله ﷿ أن يجعلنا ممن يتلمس أثره ﷺ ويقتفي سيرته وينهل من سنته كما أدعو الله ﷿ أن يجمعنا معه في جنات عدن، وأن يجزيه الجزاء الأوفى جزاء ما قدم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عبد الملك بن محمد بن عبد الرحمن القاسم
1 / 5
الزيارة
سنعود قرونًا خلت ونقلب صفحات مضت، نقرأ فيها ونتأمل سطورها، ونقوم بزيارة لرسول الله ﷺ في بيته عبر الحروف والكلمات .. سندخل بيته ونرى حاله وواقعه ونسمع حديثه، نعيش في البيت النبوي يومًا واحدًا فحسب، نستلهم الدروس والعبر ونستنير بالقول والفعل.
لقد تفتحت معارف الناس وكثرت قراءتهم وأخذوا يزورون الشرق والغرب عبر الكتب والرسائل وعبر الأفلام والوثائق، ونحن أحق منهم بزيارة شرعية لبيت الرسول ﷺ نطل على واقعه جادين في تطبيق ما نراه ونعرفه، ولضيق المقام نعرج على مواقف معينة في بيته، علنا نربي أنفسنا ونطبق ذلك في بيوتنا.
أخي المسلم:
نحن لا نعود سنوات مضت وقرونًا خلت لنستمتع بما غاب عن أعيننا ونرى حال من سبقنا فحسب، بل نحن نتعبد لله ﷿ بقراءة سيرته ﷺ واتباع سنته والسير على نهجه وطريقه، امتثالًا لأمر الله ﷿ لنا بوجوب محبة رسوله الكريم، ومن أهم علامات محبته ﷺ طاعته فيما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر.
يقول الله ﷿ عن وجوب طاعته وامتثال أمره ﷺ وجعله إمامًا وقدوة: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (١).
_________
(١) سورة آل عمران، الآية: ٣١.
1 / 6
وقال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ (١).
وقد ذكر الله طاعة الرسول واتباعه في نحو من أربعين موضعًا في القرآن (٢) ولا سعادة للعباد، ولا نجاة في المعاد إلا باتباع رسوله، ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾.
وجعل الرسول ﷺ حبه من أسباب الحصول على حلاوة الإيمان فقال ﵊: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ...» (٣).
وقال ﵊: «فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده» (٤).
وسيرة الرسول ﷺ سيرة عطرة زكية منها نتعلم وعلى هديها نسير.
_________
(١) سورة الأحزاب، الآية: ٢١.
(٢) مجموع فتاوى ابن تيمية ١/ ٤.
(٣) متفق عليه.
(٤) رواه مسلم.
1 / 7
الرحلة
الرحلة إلى حيث بيت الرسول ﷺ ورؤية دقائق حياته وأسلوب معاملته أمر مشوق للغاية كيف إذا احتسبنا فيه الأجر والمثوبة. إنها عظة وعبرة، وسيرة وقدوة، واتباع واقتداء، وهذه الرحلة رحلة بين الكتب ورواية على ألسنة الصحابة، وإلا فلا يجوز شد الرحال إلى قبر ولا بيت الرسول ﷺ ولا إلى غيره، سوى لثلاثة مساجد ذكرها الرسول ﷺ بقوله: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» (١).
ويجب أن نمتثل أمر الرسول ﷺ فلا نشد الرحال إلا لهذه المساجد الثلاثة والله ﷿ يقول: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾.
ونحن لا نتتبع آثار النبي ﷺ، قال ابن وضاح: «أمر عمر بن الخطاب ﵁ بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي ﷺ فقطعها لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها، فخاف عليهم الفتنة» (٢).
وقال ابن تيمية ﵀ عن غار حراء: وكان النبي ﷺ قبل النبوة يتحنث فيه، وفيه نزل عليه الوحي أولًا، لكن من حين نزل عليه الوحي ما صعد إليه بعد ذلك، ولا قربه، لا هو ولا أصحابه،
_________
(١) متفق عليه.
(٢) القصة في البخاري ومسلم.
1 / 8
وقد أقام بمكة بعد النبوة بضع عشرة سنة لم يزره ولم يصعد إليه، وكذلك المؤمنون معه بمكة، وبعد الهجرة أتى مكة مرارًا في عمرة الحديبية، وعام الفتح، وأقام بها قريبًا من عشرين يومًا وفي عمرة الجعرانة، ولم يأت غار حراء ولا زاره ..» (١).
ها نحن نطل على المدينة النبوية وهذا أكبر معالمها البارزة بدأ يظهر أمامنا، إنه جبل أحد الذي قال عنه الرسول ﷺ: «هذا جبل يحبنا ونحبه» (٢).
وقبل أن نلج بيت الرسول ﷺ ونرى بناءه وهيكله، لا نتعجب إن رأينا المسكن الصغير والفراش المتواضع فإن الرسول ﷺ أزهد الناس في الدنيا وكان متقللًا منها، لا ينظر إلى زخارفها وأموالها: «بل جعلت قرة عينه في الصلاة» (٣).
وقد قال ﷺ عن الدنيا: «مالي وللدنيا، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها» (٤).
وقد أقبلنا على بيت الرسول ﷺ ونحن نستحث الخطى سائرين في طرق المدينة، هاهي قد بدت حجر أزواج رسول الله ﷺ
_________
(١) مجموع الفتاوى ٢٧/ ٢٥١.
(٢) متفق عليه.
(٣) رواه النسائي.
(٤) رواه الترمذي.
1 / 9
مبنية من جريد عليه طين، بعضها من حجارة مرضومة (١) وسقوفها كلها من جريد.
وكان الحسن يقول: كنت أدخل بيوت أزواج النبي ﷺ في خلافة عثمان بن عفان فأتناول سقفها بيدي (٢).
إنه بيت متواضع وحجر صغيرة لكنها عامرة بالإيمان والطاعة وبالوحي والرسالة!
***
_________
(١) مرضومة: أي بعضها فوق بعض.
(٢) الطبقات الكبرى لابن سعد ١/ ٤٩٩، ٥٠١، وانظر السيرة النبوية لابن كثير ٢/ ٢٧٤.
1 / 10
صفة الرسول ﷺ -
ونحن نقترب من بيت النبوة ونطرق بابه استئذانًا .. لندع الخيال يسير مع من رأى النبي ﷺ يصفه لنا كأننا نراه، لكي نتعرف على طلعته الشريفة ومحياه الباسم.
عن البراء بن عازب ﵁ قال: «كان النبي ﷺ أحسن الناس وجهًا، وأحسنهم خلقًا، ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير» (١).
وعنه ﵁ قال: «كان النبي ﷺ مربوعًا بعيد ما بين المنكبين، له شعر يبلغ شحمة أذنيه، رأيته في حلة حمراء لم أر شيئًا قط أحسن منه» (٢).
وعن أبي إسحاق السبيعي قال: «سأل رجل البراء بن عازب: أكان وجه رسول الله ﷺ مثل السيف؟ قال: لا بل مثل القمر» (٣).
وعن أنس ﵁ قال: «ما مسست بيدي ديباجًا ولا حريرًا، ولا شيئًا ألين من كف رسول الله ﷺ، ولا شممت رائحة أطيب من ريح رسول الله ﷺ» (٤).
ومن صفاته ﵊ الحياء حتى قال عنه أبو
_________
(١) رواه البخاري.
(٢) رواه البخاري.
(٣) رواه البخاري.
(٤) متفق عليه.
1 / 11
سعيد الخدري ﵁: «كان ﷺ أشد حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئًا يكرهه عرفناه في وجهه» (١).
إنها صفات موجزة في وصف خلقة الرسول ﷺ وخلقه وقد أكمل له الله ﷿ الخلق والخلق بأبي هو وأمي ﷺ.
_________
(١) رواه البخاري.
1 / 12
كلام الرسول ﷺ -
أما وقد رأينا الرسول ﷺ وبعض صفاته، لنرا حديثه وكلامه، وما هي صفته وكيف هي طريقته لنستمع قبل أن يتحدث ﵊.
عن عائشة ﵂ قالت: «ما كان رسول الله ﷺ يسرد سردكم هذا، ولكنه كان يتكلم بكلام بين، فصل، يحفظه من جلس إليه» (١).
وكان هينًا لينًا يحب أن يفهم كلمه، ومن حرصه على أمته كان يراعي الفوارق بين الناس، ودرجات فهمهم واستيعابهم، وهذا يستوجب أن يكون حليمًا صبورًا.
عن عائشة ﵂ قالت: «كان كلام رسول الله ﷺ كلامًا فصلًا يفهمه كل من يسمعه» (٢).
وتأمل رفق الرسول وسعة صدره ورحابته وهو يعيد كلامه ليُفهم.
عن أنس بن مالك ﵁ قال: «كان رسول الله ﷺ يعيد الكلمة ثلاثًا لتعقل عنه» (٣).
وكان ﷺ يلاطف الناس ويهدئ من روعهم، فالبعض تأخذه
_________
(١) رواه أبو داود.
(٢) رواه أبو داود.
(٣) رواه البخاري.
1 / 13
المهابة والخوف.
عن ابن مسعود ﵁ قال: أتى النبي ﷺ رجل فكلمه فجعل يرعد فرائصه فقال له ﷺ: «هون عليك فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد» (١).
***
_________
(١) رواه ابن ماجه.
1 / 14
داخل البيت
أذن لنا واستقر بنا المقام في وسط بيت نبي هذه الأمة ﵊، لنجيل النظر وينقل لنا الصحابة واقع هذا البيت من فرش وأثاث وأدوات وغيرها.
ونحن نعلم أن لا ينبغي إطلاق النظر في الحجر والدور، ولكن للتأسي والقدوة نرى بعضًا مما في هذا البيت الشريف، إنه بيت أساسه التواضع ورأس ماله الإيمان، ألا ترى أن جدرانه تخلو من صور ذوات الأرواح التي يعلقها كثير من الناس اليوم؟ فقد قال ﵊: «لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا تصاوير» (١)، ثم أطلق بصرك لترى بعضًا مما كان الرسول ﷺ يستعمله في حياته اليومية.
عن ثابت قال: أخرج إلينا أنس بن مالك قدح خشب، غليظًا مضببًا بحديد (٢) فقال: يا ثابت هذا قدح رسول الله ﷺ (٣).
وكان ﷺ يشرب فيه الماء والنبيذ (٤) والعسل واللبن (٥).
وعن أنس ﵁: «أن رسول الله ﷺ كان يتنفس في
_________
(١) رواه البخاري.
(٢) مضببًا بحديد: أي مشدودًا بضباب من حديد لكي لا يتفرق الخشب.
(٣) رواه الترمذي.
(٤) قال الحافظ في الفتح: المراد بالنبيذ المذكور: تمرات نبذت في ماء، أي: نقعت فيه، كانوا يفعلون ذلك لاستعذاب الماء.
(٥) رواه الترمذي.
1 / 15
الشراب ثلاثًا» (١). يعني: يتنفس خارج الإناء.
ونهى ﵊ «أن يتنفس في الإناء أو ينفخ فيه» (٢).
أما ذلك الدرع الذي كان يلبسه رسول الله ﷺ في جهاده، وفي معاركه الحربية وأيام البأس والشدة، فلربما أنه غير موجود الآن في المنزل، فقد رهنه الرسول ﷺ عند يهودي في ثلاثين صاعًا من شعير اقترضها منه كما قالت ذلك عائشة (٣) ومات الرسول ﷺ والدرع عند اليهودي.
ولم يكن ﷺ ليفجأ أهله بغتة يتخونهم، ولكن كان يدخل على أهله على علم منهم بدخوله، وكان يسلم عليهم (٤).
وتأمل بعين فاحصة وقلب واع حديث الرسول ﷺ: «طوبى لمن هدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافًا وقنع» (٥)، وألق بسمعك نحو الحديث الآخر العظيم «من أصبح آمنًا في سربه (٦) معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» (٧).
_________
(١) متفق عليه.
(٢) رواه الترمذي.
(٣) متفق عليه.
(٤) زاد المعاد ٢/ ٣٨١.
(٥) رواه الترمذي.
(٦) سربه: أي نفسه، وقيل: قومه.
(٧) رواه الترمذي.
1 / 16
الأقارب
لنبي الأمة ﷺ من الوفاء في صلة الرحم ما لا يفي عنه الحديث؛ فهو أكمل البشر وأتمهم في ذلك، حتى مدحه كفار قريش وأثنوا عليه ووصفوه بالصادق الأمين قبل بعثته ﵊، ووصفته خديجة ﵂ بقولها: «إنك لتصل الرحم وتصدق ...» الحديث.
هاهو ﵊ يقوم بحق من أعظم الحقوق وبواجب من أعلى الواجبات، إنه يزور أمه التي ماتت عنه وهو ابن سبع سنين.
قال أبو هريرة ﵁: زار النبي ﷺ قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله فقال: «استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور، فإنها تذكر الموت» (١).
وتأمل محبته ﵊ لقرابته وحرصه على دعوتهم وهدايتهم وإنقاذهم من النار .. وتحمل المشاق والمصاعب في سبيل ذلك.
عن أبي هريرة ﵁ قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ (٢)، دعا رسول الله ﷺ قريشًا فاجتمعوا فعمَّ وخصَّ، وقال: «يا بني عبد شمس، يا بني كعب بن لؤي
_________
(١) رواه مسلم.
(٢) سورة الشعراء، الآية: ٢١٤.
1 / 17
أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئًا غير أن لكم رحمًا سأبلها ببلالها (١)» (٢).
وها هو الحبيب ﷺ لم يمل ولم يكل من دعوة عمه أبي طالب فعاود دعوته المرة بعد الأخرى، حتى إنه أتى إليه وهو في سياق الموت: «لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي ﷺ وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال: «أي عم، قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله ﷿»، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ قال: فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به، على ملة عبد المطلب».
فقال النبي ﷺ: «لأستغفرن لك مالم أنه عنك» فنزلت: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ (٣) قال: ونزلت: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ (٤)» (٥).
_________
(١) (أي: أصلكم في الدنيا ولا أغني عنكم من الله شيئًا.
(٢) رواه مسلم.
(٣) سورة التوبة، الآية: ١١٣.
(٤) سورة القصص، الآية: ٥٦.
(٥) رواه أحمد والبخاري ومسلم.
1 / 18
لقد دعاه الرسول ﷺ في حياته مرات ومرات، وفي اللحظات الأخيرة عند موته، ثم أتبعه الاستغفار له برًا به ورحمة حتى نزلت الآية، فسمع وأطاع ﵊ وتوقف عن الدعاء للمشركين من قراباته، وهذه صورة عظيمة من صور الرحمة للأمة ثم هي في النهاية صورة من صور الولاء لهذا الدين والبراء من الكفار والمشركين حتى وإن كانوا قرابة وذوى رحم.
نبي أتانا بعد يأس وفترة ... من الرسل، والأوثان في الأرض تعبد
فأمسى سراجًا مستنيرًا وهاديًا ... يلوح كما لاح الصقيل المهند
وأنذرنا نارًا وبشر جنة ... وعلمنا الإسلام فلله نحمد
1 / 19
الرسول ﷺ في بيته
بيت الإنسان هو محكه الحقيقي الذي يبين حسن خلقه، وكمال أدبه، وطيب معشره، وصفاء معدنه، فهو خلف الغرف والجدران لا يراه أحد من البشر وهو مع مملوكه أو خادمه أو زوجته يتصرف على السجية وفي تواضع جم دون تصنع ولا مجاملات مع أنه السيد الآمر الناهي في هذا البيت وكل من تحت يده ضعفاء، لنتأمل في حال رسول هذه الأمة وقائدها ومعلمها ﷺ كيف هو في بيته مع هذه المنزلة العظيمة والدرجة الرفيعة! «قيل لعائشة: ماذا كان يعمل رسول الله ﷺ في بيته؟ قالت: كان بشرًا من البشر: يفلي ثوبه ويحلب شاته، ويخدم نفسه» (١).
إنه نموذج للتواضع وعدم الكبر وتكليف الغير، إنه شريف المشاركة ونبيل الإعانة، وصفوة ولد آدم يقوم بكل ذلك، وهو في هذا البيت المبارك الذي شع منه نور هذا الدين لا يجد ما يملأ بطنه ﵊.
قال: النعمان بن بشير ﵁ وهو يذكر حال النبي عليه أتم الصلاة وأزكى التسليم: «لقد رأيت نبيكم ﷺ وما يجد من الدقل (٢) ما يملأ بطنه» (٣).
_________
(١) رواه أحمد والترمذي.
(٢) الدقل: رديء التمر.
(٣) رواه مسلم.
1 / 20
وعن عائشة ﵂ قالت: «إن كنا آل محمد نمكث شهرًا ما نستوقد بنار إن هو إلا التمر والماء» (١).
ولم يكن هناك ما يشغل النبي ﷺ عن العبادة والطاعة .. فإذا سمع حي على الصلاة حي على الفلاح لبى النداء مسرعًا وترك الدنيا خلفه.
عن الأسود بن يزيد قال: سألت عائشة ﵂، ما كان النبي ﷺ يصنع في البيت؟ قالت: «كان يكون في مهن أهله، فإذا سمع بالأذان خرج» (٢).
ولم يؤثر عنه ﷺ أنه صلى الفريضة في منزله ألبتة، إلا عندما مرض واشتدت عليه وطأة الحمى، وصعب عليه الخروج وذلك في مرض موته ﷺ.
ومع رحمته لأمته وشفقته عليهم إلا أنه أغلظ على من ترك الصلاة مع الجماعة فقال ﷺ: «لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلًا أن يصلي بالناس ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم» (٣).
وما ذاك إلا من أهمية الصلاة في الجماعة وعظم أمرها. قال ﷺ: «من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر» (٤)،
_________
(١) رواه البخاري.
(٢) رواه مسلم.
(٣) متفق عليه.
(٤) رواه ابن ماجه وابن حبان.
1 / 21
والعذر خوف أو مرض.
فأين المصلون اليوم؟ بجوار زوجاتهم وقد تركوا المساجد! ! ! أين عذر المرض أو الخوف! ! !
1 / 22