9
في الحادي عشر من فبراير (2011م) ذهب عدد من الشباب ينصبون خياما في منطقة الروضة شارع الهريش بجوار الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، تحت عيون النظام وأسموها ساحة الحرية. كان زربة يمر كل مساء ويشاهد تدفق الشباب إلى ساحة الاعتصام. كان زربة غير مصدق أن نظام الدولة سيسمح باستمرار تلك الحشود التي تطالب بإصلاحات سياسية واقتصادية، لكن تدفق الشباب وغيرهم من الرجال والنساء إلى الساحة أخذ في التزايد، كذلك خيم المعتصمون في صنعاء أمام بوابة جامعة صنعاء الجديدة الشارع الدائري، وفي المقابل خيم مناصرو النظام في ميدان التحرير في صنعاء. كان زربة يذهب إلى ساحة لمضغ القات، يشاهدهم وهم يشكلون فرق تنظيم وفرق حراسة للساحة، ويوسعون المنصة التي من خلالها يلقون الخطب ويبثون الموسيقى الحماسية ويهتفون «ارحل، ارحل». ضحك زربة ذات يوم وقال لشاب كان يهتف بجواره: من يرحل؟ - الرئيس. - إلى أين؟ - من فوق الكرسي.
قال زربة بصوت مرتفع، والهتافات تعلو: من شيجلس بدله، واحد من الشباب وإلا الكبار؟ - أي واحد يا عم، المهم يرحل عن الحكم. له ثلاث وثلاثين سنة، ويشتي يورث ابنه الحكم بعده.
ذات مساء سمع زربة الحشود تهتف «الشعب يريد إسقاط النظام»، فدارت في رأسه عدة تساؤلات: «هل أصبح نظام الرئيس علي عبد الله صالح ديمقراطيا إلى هذه الدرجة، وهو الذي تخلص من معارضيه منذ أن تربع عرش السلطة. نظام كهذا من يقدر أن يسقطه؟» كان يتوقع أن تنزل الدبابات إلى جميع الساحات التي تشكلت في عدة مدن يمنية تطالب بإسقاط النظام. أكبرها ساحة التغيير في صنعاء. شاهد الحشود الهائلة تتزايد، والساحة تتوسع والخيام تزداد يوما بعد يوم حتى امتدت إلى ميدان التحرير وشارع عصيفرة. كثرت المنتديات الثقافية في ساحة الحرية، التي تلقى فيها المحاضرات من قبل: الصحافيين، المثقفين، السياسيين، المعارضين والمنشقين عن النظام، يدلون بآرائهم دون خوف من النظام، ذلك الخوف الذي لم يعد له وجود في الإنسان اليمني. وقتذاك صدق زربة أن هناك ثورة شعبية عارمة فتأكد أن النظام سيسقط وسيجبره الجيش على ذلك وسيستبدله برجل آخر منهم، لكن النظام لم يسقط؛ بل انشق على نفسه وأعلن قائد الفرقة الأولى مدرع في 21 مارس انضمامه إلى ثورة الشباب السلمية، ولأول مرة يعلم الكثير من الناس أن العاصمة كانت مشطورة إلى نصفين، الفاصل بينهما شارع الزبيري وأن هناك جيشي ولاء كلا منهما لقائده، ومناصرو النظام أخذوا أيضا في التزايد، يصلون صلاة الجمعة في ميدان السبعين ويلقون خطبهم ، بينما المعتصمون يصلون صلاة الجمعة في شارع الستين الغربي.
أدهشت زربة تلك الحشود التي كانت تتدفق من القرى إلى ساحة الحرية مكونة مسيرات هائلة، نساء، رجالا، وأطفالا تجوب شوارع المدينة، تجتاح جنود مكافحة الشغب المزودة بخراطيم المياه الحارة والقنابل المسيلة للدموع. لم يعد يخيف المتظاهرين دوي الطلقات النارية لأطقم العسكر، وهي تتقدم للأمام كسيل جارف. ساهم زربة في نقل المصابين مع فرق الإنقاذ إلى المعهد المهني الذي تحول إلى مستشفى ميداني وكذلك مستشفى الصفوة والروضة اللذان تكفلا بعلاج المصابين.
كان زربة يتردد أحيانا على بيت عمه ثابت عمر، الذي كان في هذه الفترة مؤيدا للثورة على الرغم من بلوغه الخامسة والثمانين من العمر، يذكر زربة بشبابه ويفتخر بمشاركته في حرب التحرير من الاحتلال البريطاني في عدن، وكانت عمته سعادة تحضر للجلوس مع زربة، فقد كانت تود فيما مضى أن تزوجه ابنتها جميلة. كانت أثناء انفرادها به تشكو له ضيق الحالة المادية؛ حتى إنهم أحيانا لا يجدون قيمة وايت الماء، فمشروع المياه لا يضخ الماء للمدينة إلا مرة كل أربعين يوما منذ عشرين عاما، ويكون ذلك اليوم عيدا للمدينة، فكان زربة يساعدهم، كلما سنحت له الفرصة.
ازداد الغضب الشعبي بعد جمعة الكرامة 18 مارس، يوم أن سقط خمسون قتيلا بعد صلاة الجمعة في ساحة التغيير بصنعاء، كانوا يقاومون الرصاص بالحجارة. كانت البهجة فيه لا حدود لها وهو يستمع إلى استقالات قيادات مدنية وعسكرية من صفوف النظام.
10
خرج زربة مع بعض المسيرات وهي تجوب شوارع المدينة. وجد هذه المسيرات تشابه المسيرة الكبيرة التي شارك فيها وهو فتى عام (1968م) بعد الانقلاب على رئيس الجمهورية عبد الله السلال، وتولي القاضي عبد الرحمن الأرياني بعده رئاسة اليمن، والتي راح ضحيتها بعض المتظاهرين أمام عينيه. حماس الشباب وثقتهم بنجاح ثورتهم عزز الثقة في نفسه وهم يتغنون بالأناشيد الثورية التي تهز عرش الحاكم، أثناء المسيرات وحول منصة ساحة الحرية.
تفاجأ ذات يوم بصديقه القديم محمد مدهش يعتلي منصة الساحة، كغيره من خطباء المساجد وأخذ يخطب خطبة حماسية ، والحشود تتزاحم حول المنصة تهتف له وتصفق. حاول زربة أن يقترب من المنصة، لكنه لم يستطع. رفع عمامته يلوح بها ليلفت انتباه مدهش إليه ، لكن الهتافات وحماس الشباب حال دون ذلك. أنهى محمد مدهش خطبته، فشق زربة الزحام بقوة إلى أن وصل إليه بعد نزوله من المنصة، فمنعه الحرس من الاقتراب منه، فهتف: مدهش، مدهش ... أنا زربة.
ناپیژندل شوی مخ