توفي صالح محمد عاقل القرية، وأقيم له عزاء كبير، شارك زربة في خدمة المعزين الذين أتوا من قرى مجاورة. ذبح الجزار مقبل الدسم ثور العاقل للعزاء، وبقي صادق العردان بجواره يراقبه خوفا من أن يخفي بعض اللحم لكنه قطع اللحم إلى قطع كبيرة، ثم قام العردان بطبخ نصف الثور لمأدبة العشاء في اليوم الأول، وزربة يتذوق اللحم من القدور، لهذا طالت فترة التذوق، إلى أن تذوق حوالي اثنين كيلو. اختنق المسحور بعد تناوله قطعة كبيرة من اللحم، وبعد أن نجا من حتفه لعن الجزار واتهمه أنه لم يجد الذبح. كان زربة يقوم بتوزيع القات على الحاضرين والوطواط يقدم القهوة ويراقب زربة بفضول وهو يوزع القات. همس الوطواط للبعض: والله، زربة ظلمك ... يعطي أصحابه أكثر.
كانت صلصلة مدقات القات الحديدية ترن في الديوان من قبل أصحاب الأفواه الخاوية من الأسنان، يهرسونه إلى أن يصير نثارة خضراء، ثم يتناولونه بالملاعق. استمر العزاء لمدة ثلاثة أيام شبع فيها الحاضرون من الرجال والفتيان من اللحم، أما النساء فيقدمن الماء والصابون.
3
حين حدثت أحداث الثالث عشر من يناير (1986م) وخيمت أدخنة الموت فوق سماء جنوب الوطن ودخان الموت يتصاعد من المدينة، كان زربة في قريته يستمع إلى دوي المدافع التي استمرت لمدة عشرة أيام، ويشاهد أثناء الليل أضواء القذائف في سماء عدن، وأعلن فيها عن موت الرفيق عبد الفتاح إسماعيل. تندر زربة وأصحابه على هروب الرئيس علي ناصر إلى صنعاء، بعد أن هزم في المعركة وهو الذي خطط لها للانفراد بالسلطة.
جلس ذات يوم على سطح داره يشاهد الحقول التي لم يعد أهالي القرية يهتمون بها كثيرا، كما كانوا يفعلون من قبل ويتباهون بها؛ بسبب قلة الأمطار واستيراد القمح من الخارج. لم يطل التغيير للأرض فقط، بل والعادات والتقاليد كذلك؛ فقد انتقلت عادات المدينة إلى القرى. تلاشت براءة الأهالي، لم تعد النساء تحرث الأرض على أبقارهن، والفتيات منذ سن العاشرة يرتدين البالطو الأسود مع الخمار حين يخرجن من بيوتهن.
التقى زربة بالمقاول عبد العزيز في سوق القات، فعانقه ودعاه للعمل معه. سأله زربة عن الجندي جمال عمر الحكيمي، رد عبد العزيز: ما زلت تذكره يا زربة! اختفى من زمان ما يعرفوش له أثر بعد سفره إلى عدن مثل غيره يهجرون أسرهم، ما يعودوش إلا بعد سنين، يجلسون شهورا ثم يعودون للهجرة مرة أخرى. قالوا إنه قتل في أحداث يناير عام (1986م).
مضى زربة فترة قصيرة في القرية ثم عاد إلى صنعاء. لم تكن نادية تشعر بالغيرة من صفية، كان يلاحظ كيف تستقبله بالبهجة والسرور، تغسل قدميه بالماء الساخن عند وصوله وتجففهما. يفتتن بكلامها العذب وجسمها الرقيق، وأناملها الفاتنة، تلك الأنامل التي لا يراها عند صفية. كان يشعر أنه امتلك أنثى حقيقية.
4
كانت سهراتهما حافلة بالأنس والمرح، يحكي لها حكايات ومقالب عمه قاسم. كان له أسلوب مشوق في السرد يجعل المستمع يعيش الحكاية، يبدأ بالضحك أولا قبل الحكاية. حكى لها عن عمه حين اغترب هو وأصحابه من اليمنيين في الخليج العربي للبحث عن عمل، بقي هناك خمسة أشهر دون عمل وقد كان هو وأصحابه يفكرون بالعودة، يندبون حظهم العاثر وخسارتهم.
ذات يوم كانوا يمشون معا في حي من أحياء أبو ظبي القديمة، فقال قاسم: لماذا لا نعمل كما يفعل البائعون المتجولون الباكستانيون في بيع الملابس والإكسسوار النسائية، أخبره أصدقاؤه أنهم لن ينجحوا في هذا العمل، فقال لهم: سأجرب أولا. ثم مشى في الحي وحيدا وهو يصيح: ليلم، ليلم ... فظهرت النساء من شرفات البيوت ينظرن بائع الإكسسوار، وسألته إحداهن: أين الليلم يا أبو يمن، أيش حقه تنادي وأنت ما معك شيء؟ فقال لهم قاسم: كنت أجرب لو جزعت
ناپیژندل شوی مخ