ولكن الرجل زاد انفعاله، وقال بحدة: أرأيت إلى المعلم كرشة كيف يحتفظ بصحة البغال؟ - إنك بمرضك خير منه بصحته وعافيته.
وغلبه الغضب، فرمق محدثه بنظرة ملتهبة وقال: إنك تتحدث في سكينة وطمأنينة، وتعظ في ورع وتقوى؛ ولكنك لم تذق بعض ما ذقت، ولم تخسر شيئا مما خسرت.
وتطامن رأس السيد حتى ختم الرجل خطابه، ثم رفع رأسه وعلى شفتيه ابتسامته الحلوة، وحدجه بنظرة عميقة من عينيه الصافيتين، وسرعان ما استكن غضبه وفتر انفعاله، وكأنه يذكر لأول مرة أنه يخاطب أكبر مصاب من عباد الله. وطرفت عيناه، وتورد وجهه الشاحب قليلا، ثم قال بصوت ضعيف: اعذرني يا أخي، إني تعب مرهق.
فقال السيد ولم تفارق الابتسامة شفتيه: لا عليك من هذا، قواك الله وسلمك، اذكر الله كثيرا، فبذكر الله تطمئن القلوب، ولا تدع الأسى يغلب عليك إيمانك أبدا، فالسعادة الحقة ترتد عنا على قدر ما نرتد عن إيماننا.
فقبض الرجل على ذقنه بشدة وقال بحنق: حسدوني .. نفسوا علي المال والجاه .. حسدوني يا سيد رضوان! - الحسد شر من المرض، وإنه لمن المحزن حقا أن الذين ينفسون على إخوانهم حظهم من المتاع الفاني كثيرون. لا تأس، ولا تحزن، وسلم إلى الله ربك الرحيم الغفور.
وتحادثا طويلا، ثم ودعه السيد رضوان وانصرف، ولبث الرجل هنيهة كالهادئ، ثم أخذ يعود رويدا رويدا إلى عبوسه وتجهمه، ونبا به القعود طويلا، فنهض قائما، ومشى متمهلا إلى باب الوكالة، ووقف عند مدخلها شابكا يديه وراء ظهره .. كانت الشمس تعلو كبد السماء، والجو دافئا مشرفا، وقد بدا الزقاق كالمقفر في تلك الساعة من الظهيرة، اللهم إلا الشيخ درويش الذي جلس أمام القهوة يتشمس، فلبث السيد مليا، ثم تلفت - بحكم عادة قديمة - نحو النافذة، فوجدها مفتوحة خالية، وكأنه ضاق بموقفه فرجع إلى مجلسه متجهما عابسا.
23 «... لن أعود إلى القهوة حتى لا أثير الشبهات.» هذا ما قاله لها عند افتراقهما، وقد ذكرته حميدة في صباح اليوم التالي لمقابلة الدراسة، ذكرته بخيال حي يقظ سعيد، وتساءلت: أتذهب للقائه اليوم؟ فأجاب قلبها: «نعم» دون خفاء؛ ولكنها قالت بعناد: «كلا .. يجب أن يعود إلى القهوة أولا.» وامتنعت عن الخروج في موعدها المألوف، وقبعت وراء النافذة تنتظر ما يكون. وانصرمت ساعة المغيب، وأطبق الليل ناشرا جناحيه، وعند ذاك أقبل الرجل من أسفل الزقاق مصوبا عينيه نحو الزيق الذي انفرج عنه خصاص النافذة تلوح في وجهه ابتسامة تنم عن التسليم، وجلس على كرسيه المختار. وشعرت وهي ترقبه ببهجة الانتصار، ولذة الانتقام لعذابها يوم أعياها العثور عليه في الموسكي .. والتقت عيناهما طويلا - دون أن تغضي أو ترتد عن موقفها - فازداد ظل ابتسامته امتدادا، ووشى وجهها بابتسامة وهي لا تدري. ماذا يبغي يا ترى؟ وبدا لها هذا السؤال غريبا، إذ لا تدري لمثل إلحاحه في طلابها إلا معنى واحدا، سعى إليه من قبل عباس الحلو، وطمح إليه السيد سليم علوان قبل أن يحطمه الدهر، فلماذا لا يكون غاية هذا الأفندي الوجيه؟! أو لم يقل لها: «ألست في الدنيا لتؤخذي؟ .. وإني لآخذك»؟! فما عسى أن يعني هذا إن لم يعن الزواج؟! ولم يعق أحلامها عائق، لشدة شعورها بقوتها وثقتها بنفسها، بل وغرورها الجامح. وجعلت تنظر إليه من وراء خصاصها المنفرج، وتتلقى نظراته المسترقة باطمئنان وثبات وبلا تردد. وحادثتها عيناه حديثا عميقا يعيي اللسان والحواس جميعا، فتردد صداه في أعماق نفسها محركا غرائزها. ولعلها وجدت هذا الشعور العميق الصادق - وهي لا تدري - يوم التقت عيناهما أول مرة، يوم حدجها بنظرته العارمة المتحدية، وابتسم إليها تلك الابتسامة الظافرة، فانجذبت إليه كما تنجذب إلى المعترك المستعر. والحق أنها عرفت قدرا من نفسها على ضوء عينيه، فلم تعد الضالة في متاهة الحياة، ولم تعد الحائرة إلى نظرة عباس الحلو الوديعة وثروة السيد علوان الطائلة، ولكنها شعرت بأن هذا الرجل طلبتها، وأن ما يستثيره في صدرها .. الانفعال والإعجاب والاستفزاز هو لذتها التي تجذب إليها بفطرتها، كما تجذب إبرة البوصلة إلى القطب، وأنه رجل من غير الحثالة التي يستعبدها الفقر والحاجة كما يشهد بذلك مظهره وأوراقه المالية. وراحت ترنو إليه بعينين متألقتين تذكيان ضياء من وجد وتوثب، ولم تبرح مكانها حتى غادر القهوة وهو يودعها بابتسامة خفيفة، فأتبعته ناظريها وهي تقول وكأنها تتوعده: «غدا.»
وفي عصر الغد غادرت البيت بقلب ملؤه الشوق والتحدي والهيام بالحياة. وما كادت تخرج من الصنادقية حتى رأته عن بعد واقفا عند ملتقى الغورية بالسكة الجديدة، فلاحت في عينيها لمعة خاطفة، وانبعث في صدرها شعور غامض غريب؛ وهو مزيج من السرور والرغبة الوحشية في القتال! وقدرت أنه سيتبعها في الذهاب والإياب حتى يخلو لهما الجو في الدراسة. فسارت على مهل دون أن يخالجها شعور بالاضطراب أو الحياء، واقتربت منه كأنها لا تراه، ولكن حدث - وهي تمر به - ما لم يقع لها في حسبان، فقد سار معها ومد يده بجرأة لا توصف فقبض على راحتها، وقال لها بهدوء متجاهلا المارة والواقفين: مساء الخير يا عزيزتي!
أخذت على غرة، فحاولت أن تسترد يدها؛ ولكنها لم تفلح، وخافت إن أعادت الكرة أن تستلفت الأنظار، فاستولى عليها الارتباك والغيظ، ووجدت نفسها بين اثنتين؛ فإما غضب وفضيحة وجرسة ثم قطيعة، وإما استسلام تستكرهه لأنه فرض عليها فرضا مقهرا، فامتلأت حنقا، وهمست بصوت منخفض متهدج من الغضب: كيف تجرؤ على هذا؟ .. دع يدي بسرعة.
فأجابها بهدوء وهو يمشي إلى جانبها كأنهما صديقان ينطلقان معا: حلمك .. حلمك، لا كلفة بين الأصدقاء.
ناپیژندل شوی مخ