وحدج الشيخ درويش بنظرة رقيقة وقال له وهو يهم بمغادرة القهوة: يا سيدنا الشيخ ادع لي.
فخرج الشيخ درويش عن صمته قائلا وقد بسط ذراعيه: الله يخرب بيتك!
وما آذنت الشمس بالمغيب حتى كان السرادق قد ضاق عن القاصدين، وتناقل الحاضرون أن سياسيا كبيرا سيلقي خطابا هاما. وذاع أن شعراء وزجالين سيتبارون على المسرح. ولم يطل الانتظار، فارتقى المسرح قارئ وتلا ما تيسر من الذكر الحكيم، وأعقبته فرقة موسيقية من شيوخ مهدمين مهلهلي الثياب فعزفوا النشيد الوطني، وكان لإذاعة المكبرات لموسيقاهم أثر واضح في دعوة الغلمان والصبية من الأزقة والحواري حتى سدوا الصنادقية سدا. وتعالى الهتاف والضوضاء. وانتهى النشيد دون أن يبرح رجال الفرقة أماكنهم، حتى ظن أن الخطباء سيلقون خطبهم على أنغام الموسيقى. ثم كانت المفاجأة السارة إذ دق بعضهم أرض المسرح حتى شمل الصمت الجمع المحتشد، ثم بدأ مونولوجست معروف في لباسه البلدي، فما كادت تراه الأعين المحدقة حتى جن جنونهم فرحا وسرورا، وراحوا يهللون ويصفقون، وقال المونولوجست وتفنن .. ورقصت امرأة شبه عارية وهي تهتف المرة تلو المرة: «السيد إبراهيم فرحات .. ألف مرة .. ألف مرة .» وجعل الرجل المشرف على المكبرات يصيح في المذياع (السيد إبراهيم فرحات أحسن نائب .. ميكروفون بهلول أحسن ميكروفون). واتصل الغناء بالرقص والهتاف، وانقلب الحي جميعا إلى مولد.
ولما عادت حميدة من مشوارها المعهود وجدت الحفلة في إبان ازدهارها وسرورها. وكانت تظن كأهل الزقاق كافة أنها ستكون حفلة هتاف وخطب (بالنحو) على حد تعبيرهم. وما إن رأت المنظر البهيج حتى شملها السرور وتلفتت يمنة ويسرة باحثة عن مكان تشاهد منه حفلة الطرب والرقص التي نادرا ما ترى مثلها في حياتها. ومضت تشق طريقها بصعوبة بين الغلمان والبنات حتى بلغت مدخل المدق، واقتربت من جدار الصالون، وارتقت حجرا منغرسا لصق الحائط، وتطلعت باهتمام وسرور إلى السرادق.
كان الغلمان والبنات يكتنفنها من كل جانب، ووقفت نسوة كثيرات يقبضن على أيدي أطفالهن أو يحملنهم على أكتافهن. واختلط الغناء بالهتاف .. بالحديث .. بالصياح .. بالضحك بالعويل. واستولى المنظر الخلاب على لبها فانجذبت روحها إليه، والتمع السرور في عينيها الفاتنتين، وفمها المفتر عن ابتسامة لؤلؤية. وكانت متلفعة بملاءتها، فلا يبدو منها إلا وجهها البرنزي، وأسفل ساقيها، وما انحسر عنه طرف الملاءة من مقدم شعرها الفاحم. ورقص قلبها سرورا، وتنبهت حواسها جميعا، وجرى دمها حارا دافقا، سرها المونولوجست سرورا لم تشعر بمثله من قبل، حتى شعورها المر القارص نحو الراقصة لم يستطع أن يفسده عليها. وظلت مستغرقة في ما ترى غير ملقية بالا إلى هبوط الظلام حتى أحست شيئا ما يجذب عينيها نحو اليسار، كأنه نداء يدعو حواسها إليه، أو ذاك الشعور الذي يقلقنا إذا أحدقت فينا عينان، ولبته على رغمها، فتحولت عن المونولوجست عاطفة رأسها إلى يسارها، فالتقت عيناها بعينين تتفرسان فيها بقوة وقحة! ولبثتا مقدار ثانية ثم عادتا إلى هدفهما، ولكنها لم تستطع أن تنعم باستغراقها الأول، وظل شعورها منتبها إلى العينين العارمتين، وجعلت حدقتاها تميلان ناحية اليسار، وساورها شك وقلق، فالتفتت مرة أخرى فالتقت بالعينين تتفرسان فيها بالقحة نفسها، وقد نمتا - إلى ذلك - عن ابتسامة غريبة. ولم تتمالك نفسها فأعادت رأسها إلى موضعه الأول في شيء من الحدة وقد ملأها الحنق. أحنقتها هذه الابتسامة الغريبة؛ لأنها أفصحت عن ثقة وتحد لا حد لهما؛ فهيجت موضع الالتهاب والانفجار من نفسها الشرسة المتفجرة، وشعرت برغبة جامحة أن تنشب أظافرها في شيء ما .. في رقبته لو أمكن مثلا! وصممت على أن تهمله، على نفورها من هذه الطريقة السلبية في العراك، وإن ظل شعورها قويا بعينيه الوقحتين! ونغص عليها سرورها، وركبتها روح الشر التي تلبسها بسرعة جنونية. وكأن صاحب العينين لم يقنع بما فعل، أو كأنه لا يبالي هذه النار التي شبها، فراح يشق طريقه إلى موضع في طريق بصرها الشاخص إلى السرادق، متعمدا بلا شك أن يعترض سبيلها، ووقف هناك موليا إياها ظهره .. كان طويل القامة، نحيفا، عريض المنكبين، حاسر الرأس، غزير الشعر، مرتديا بدلة ذات لون ضارب للاخضرار، متأنقا في ملبسه ومظهره، فلاح غريبا في هذا الوسط الذي يكتنفه، وسرعان ما أنستها الدهشة ما تولاها من حنق وتوحش. هذا أفندي وجيه، وأين من زقاقها الأفندية؟! ترى هل يعاود النظر وسط هذا الزحام؟ .. ولكن لم يكن شيء ليردعه، فما عتم أن التفت وراءه مرسلا نحوها نظرا عارما. وكان وجهه نحيلا مستطيلا، لوزي العينين، كثيف الحاجبين، تنطق نظرة عينيه بالحذق والقحة. ولم يكتف بهذا التفرس على الملأ فصوب فيها نظرة، وصعد من شبشبها المنجرد إلى شعرها، حتى انساقت وهي لا تدري إلى النظر إلى عينيه كأنما لتسبر ما تركه تفحصه من أثر، فالتقت عيناهما، ولاحت في عينيه هذه النظرة المثيرة الوقحة الواشية بما يتيه به من ثقة وتحد وظفر، فتناست دهشتها، وعاودها الحنق والغيظ والرغبة في العراك، فغلا دمها غليانا، وهمت أن تشتمه علانية .. همت أكثر من مرة، ولكنها لم تفعل، وتولاها قلق وانفعال وضاقت بوقفتها، فنزلت عن الحجر، ومرقت إلى الزقاق مندفعة على عجل، فقطعته في ثوان. وعندما اجتازت عتبة البيت شعرت برغبة في الالتفات إلى الوراء، ولكنه تمثل لعينيها في وقفته مرسلا عينيه في وقاحة وثقة، وقد ازدادت ابتسامته افتضاحا، فرغبت عن رغبتها، وارتقت السلم متعجلة حانقة تلوم نفسها على تساهلها معه وتفريطها في تأديبه. واتجهت نحو حجرة النوم وخعلت ملاءتها، ثم دلفت من النافذة المغلقة، ونظرت إلى الطريق من خلال خصاصها، وبحثت عيناها عن ضالتها حتى استقرتا عليه عند مدخل الزقاق، وكان يرمق النوافذ المطلة على الزقاق باهتمام، وقد فارقت عينيه ابتسامة الثقة والتحدي وحل محلها احتفال وتطلع. وسرها مظهره الجديد فانفثأ حنقها، ولبثت بموقفها تستلذ حيرته، وتنتقم لغيظها وحنقها. أفندي وجيه ما في ذلك من شك، وغير السابقين بلا جدال، وقد أعجبته، وإلا ففيم هذا الاهتمام الشديد؟! وأما نظرة عينيه فقاتلها الله من نظرة تستوجب أعنف عراك! .. فيم هذه الثقة التي لا حد لها؟ أيحسب نفسه بطل الأبطال أو أمير الأمراء؟ وخالط ارتياحها حنق، ووجدت رغبة غامضة إلى العنف والتحدي. ولكنه بدأ ييئس من النوافذ، وأعياه البحث عنها، وخافت أن ينصرف عن تطلعه ويغيب في الزحام. وترددت لحظة، ثم أدارت الأكرة، وفرجت ما بين مصراعي النافذة عن زيق ووقفت وراءه كأنما لتشاهد الحفلة. كان موليا الزقاق ظهره، ولكنها كانت مطمئنة إلى أنه سيعاود البحث والفحص والاستقصاء. وقد فعل، فتلفت رأسه مرة أخرى وتردد بين النوافذ، حتى علق بالزيق فأضاءت صفحة وجهه، ولبث لحظات كالمرتاب، ثم .. ثم ارتسمت على شفتيه الابتسامة الوقحة، ورد إليه مظهر التيه والخيلاء بأفظع مما كان، وأدركت أنها انزلقت إلى خطأ لا يغتفر بظهورها، وثارت ثائرتها واستولى عليها الحنق والغيظ، ووجدت في ابتسامته تحديا يدعوها للنزال! وجدت في هاتين العينين ما لم تجد عند أحد من قبل، وقرأتهما بوضوح على ضوء نفسها الغاضبة المتعطشة للعراك. وبدا الرجل وكأن شيئا لا يمكن أن يقفه عند حد فتحرك مصعدا في الزقاق بقدمين ثابتتين حتى خيل إليها أنه قادم إلى البيت. ثم مال إلى قهوة كرشة، واختار مجلسا ما بين المعلم كرشة وأريكة الشيخ درويش حيث كان يجلس عباس الحلو في الأيام الخوالي مستطلعا إلى شبحها وراء الخصاص. خطا بجلوسه هذا خطوة جريئة. ولكنها لم تتراجع، لبثت بموقفها مرسلة عينيها إلى المسرح، وإن كانت لا تكاد تدري بما يدور عليه، شاعرة ببصره يصوب نحوها من آونة لأخرى في ومضات متقطعة كالكشاف الكهربائي.
ولم يفارق الرجل مكانه حتى انتهت الحفلة وأغلقت النافذة.
وما انفكت حميدة تذكر هذه الليلة فيما أعقب ذلك من ليال وعهود.
20
ولم ينقطع بعد تلك الليلة عن زقاق المدق، فكان يجيء عند العصر ويتخذ مجلسه المختار، ويقطع وقته بتدخين النارجيلة واحتساء الشاي. وقد أحدث ظهوره الطارئ - بوجاهته وأناقته - دهشة في القهوة، ولكن سرعان ما سحبت العادة عليها ذيول الإهمال، فليس من الخوارق أن يقصد أفندي مثله قهوة مفتوحة لكل طارق. بيد أنه أتعب المعلم كرشة بما كان يقدم عند الحساب من أوراق نقدية ضخمة لا تقل في كثير من الأحيان عن الجنيه، كما أنه أسر سنقر بما كان ينفحه من بقشيش لا عهد له به من قبل. وراقبت حميدة مجيئه يوما بعد يوم بعين متفتحة ونفس متوثبة. ولكنها أحجمت بادئ الأمر عن خروجها إلى فسحتها اليومية لرقة ثيابها وتفاهتها، حتى ضاقت بالبيت ضيقا شديدا. ثم أغضبها إحجامها وعدته نوعا من الجبن لا يسيغه طبعها الجريء، وعز عليها أن يقضي مخلوق عليها بالتزام شيء تستكرهه، فنشبت معركة جديدة في صدرها الذي لا يستريح من المعارك. وقد رأت الأوراق النقدية التي كان يتعمد تقديمها لسنقر تحت بصرها، وفطنت بطبيعة الحال إلى دلالتها. وربما كانت هذه لغة ساقطة في غير هذا المكان، أما في زقاق المدق فهي لغة بليغة لا يخيب لها أثر، ومع أن الرجل كان شديد الحرص على ألا يبدو منه ما ينبه أحدا إلى الباعث الحقيقي لغشيانه القهوة، إلا أنه كان لا يعدم فرصة فيسترق النظر إلى خصاص النافذة، أو يضع مبسم النارجيلة على فيه زاما شفتيه كأنه يقبله، ثم يرسل الدخان إلى عل كأنما يرسل القبلة في الهواء إلى شبحها الجاثم وراء النافذة. وكانت ترى ذلك باهتمام، وتساورها أحاسيس متباينة لا تخلو من لذة ولا تخلو من حنق. وقد حدثتها نفسها بأن تنطلق إلى نزهتها ملقية بمخاوفها تحت نعليها، وأن تتلقاه إذا سولت له نفسه التعرض لها - الأمر الذي لا يداخلها فيه أدنى شك - بما تعهده في نفسها من قحة حقيقة بأن تهزم قحته شر هزيمة، وأن تسلقه بلسانها سلقا لا ينساه مدى الحياة. وإنه لأعدل جزاء على زهوه الكاذب، وابتسامته الظافرة، وتحديه الوقح. تبا له، ما الذي يدعوه لهذا التظاهر بالغلبة والقهر؟! لا ارتاح لها بال حتى تمرغ أنفه في الرغام، ولكن آه لو كانت تملك ملاءة حسنة أو شبشبا جديدا؟!
وقد اعترض سبيل حياتها وهي تعاني اليأس المرير؛ إذ سقط السيد سليم علوان بين حي وميت بعد أن مناها يوما وبعض يوم بالحياة العريضة التي تهيم بها، وبعد أن نبذت من أحلامها عباس الحلو ولفظته. وعلمت بعد ذلك أنه لم يعد ثمة أمل في ذاك الزواج المأمول، فردت على رغمها خطيبة للحلو، وقد ازدادت له مقتا ونفورا. وأبت أن تسلم بسوء حظها، وراحت تنتهر أمها وتتهمها بأنها حسدتها وطمعت في مال الرجل، فخيب الله آمالها. على هذه الحال لاح الرجل الجديد في أفق حياتها، وقد بعث ظهوره في نفسها ثورة عارمة جارفة استثارت كوامن غرائزها جميعا .. أغضبها زهوه، وأحنقها تحديه، وأغرتها وجاهته، وأيقظتها فحولته وجماله .. جذبتها نحوه قوة خفية من غرائزها المطمورة، ووجدت فيه ما لم يجتمع لسواه ممن عرفت من الرجال .. القوة والمال والعراك! ولم تكن تدرك مشاعرها بوضوح وجلاء، أو تدري حاجات نفسها الملتوية، فتحيرت بين انجذابها إليه، وبين رغبتها المضطرمة في الأخذ بتلابيبه، ثم وجدت في الانطلاق مهربا من سجنها وحيرتها معا، وفي فسحة الطريق مجالا تسبر فيه نفسها وغرائزها .. في الطريق يجوز أن يتعرض لها، فتتاح لها فرصة أن تتحداه كما تحداها، وأن تنفس عن غضبها وحنقها، وأن تلبي هذا النداء الخفي الذي يهيب بها إلى النزال والعراك .. والانجذاب! •••
ناپیژندل شوی مخ