فأضاء وجه الفتاة نورا، وغمغمت لا تدري من الدهشة والسرور: يا خبر أسود! - يا خبر أبيض، يا خبر مثل اللبن والقشدة. لم أكن لأصدق لولا أنه حادثني بنفسه.
غرزت الفتاة المشط في شعرها، وهرعت إلى أمها وارتمت إلى جانبها، وسألتها وهي تشد على كتفها: ماذا قال لك؟ خبريني بكل ما قال، كلمة كلمة.
وأنصتت إلى المرأة بانتباه عميق وهي تروي قصتها .. وخفق قلبها خفقانا متواصلا، وتورد وجهها، وتألقت عيناها بشرا وسرورا. هذه هي الثروة التي تحلم بها، هذا هو الجاه الذي تهيم به. وإنها من حب الجاه لفي مرض، وإن الشغف بالقوة لغريزة جائعة في باطنها، فهل يتاح لها شفاء أو ارتواء إلا بالثروة؟ لم تكن تدري دواء لهذا التشوف الأليم يضطرم في أعماقها إلا الثراء الكبير، فهو الجاه العريض، وهو القوة الشاملة، وهو بالتالي السعادة الكاملة. كانت في سرورها المباغت كمحارب أعزل عثرت يده بسلاح مصادفة في أشد المواقف حرجا .. كانت كطائر مقصوص الجناحين يسف في يأس وقنوط على رغم محاولاته الفاشلة، ثم ينبت له ريش بمعجزة تدق على الأفهام. فيبدله من محاولاته الفاشلة تحليقا يسمو به إلى قنن الجبال. وكانت أمها تنظر إليها بلحظ خفي فسألتها: ماذا ترين؟
لم تدر أم حميدة ماذا تقول، ولكنها كانت مشمرة للمعارضة أيا كان رأي الفتاة؛ فإذا قالت: السيد، قالت: والحلو؟ وإذا قالت: الحلو، قالت: أونفرط في السيد؟! أما حميدة فقالت بإنكار شديد: ماذا أرى؟! - أجل ماذا ترين؟ فليس الأمر مما يسهل الفصل فيه، أنسيت أنك مخطوبة؟! .. وأني قرأت الفاتحة مع الحلو؟
فلاحت في عيني الفتاة نظرة حادة غشت جمالهما، وقالت في انزعاج وازدراء: الحلو؟!
وعجبت أمها لسرعتها الفائقة في البت في مثل هذا الأمر الخطير، وكأن الحلو لم يكن قط، وعاودها شعورها القديم بأن ابنتها فتاة شاذة مخيفة. والحق أن المرأة لم يداخلها شك جدي في النهاية المحتومة، ولكنها كانت تريد أن تبلغها بعد لأي. كانت ترغب أن تتردد الفتاة فتتطوع هي إلى إقناعها بالقبول، لا أن تلفظ اسم الحلو بمثل هذا الازدراء الغريب. واستدركت تقول بلهجة تنم عن الانتقاد: أجل الحلو، أنسيت أنه خطيبك؟!
كلا لم تنس؛ ولكن سيان التذكر والنسيان، ترى هل تعترض أمها حقا؟ وحدجتها بنظرة نافذة، فأيقنت أنها كاذبة في انتقادها، وهزت منكبيها استهانة، وقالت باستخفاف واحتقار: ذبحة. - ماذا يقول الناس عنا؟ - دعيهم يقولون ما بدا لهم. - سأستشير السيد رضوان الحسيني.
فجفلت الفتاة من هذا الاسم واعترضت قائلة: ما شأنه في أمر يخصني وحدي؟ - نحن أسرة لا رجل لها، فهو رجلنا.
ولم تطق المرأة انتظارا فنهضت واقفة، وتلفعت بملاءتها، وغادرت الحجرة وهي تقول: «لا سأشاوره وأعود توا.» وشيعتها الفتاة بنظرة غيظ، ثم تنبهت إلى أنها لم تتم تمشيط شعرها، فمضت تمشطه بحركات آلية وعيناها شاخصتان إلى دنيا الأحلام الزاهرة. ثم نهضت دالفة من النافذة وجعلت تنظر خلال خصاصها إلى الوكالة الكبرى ساعة، وعادت إلى جلستها.
لم يكن تحولها عن عباس الحلو بغير تمهيد كما ظنت أمها، أجل لقد حسبت حينا أنها وصلت - راضية - أسبابها بأسبابه إلى الأبد، فمنحته شفتيها يقبلهما بما أوتي من شغف وحب، وجاذبته حديث المستقبل كأنه مستقبلهما معا، ووعدته أن تزور الحسين لتدعو له، وزارته بالفعل ودعت له - ولم تكن تزوره إلا لتستعديه على عدوة عقب شجار - وانتظرت على أمل أن تظفر بهذه السعادة المرموقة، وفضلا عن ذلك فقد رفعها الحلو من مجرد بنت إلى فتاة مخطوبة، فلم يعد في وسع أم حسين أن تمسك بسوالفها وتقول لها شامتة: «أحلق هذه لو خطبك إنسان.» بيد أنها كانت تنام على فوهة بركان .. ولم تذق بادئ الأمر الطمأنينة الكاملة، ووجدت في النفس شيئا يضطرب يرتاد متنفسا. حقا لوح عباس الحلو لطموحها العنيف ببعض الزاد؛ ولكن الحلو نفسه ليس بالرجل الذي تريد، وقد حيرها أمره مذ أول لقاء. ولم تكن تدري كيف يكون رجلها على وجه التحقيق. ولكن الحلو لم يقبض على ملاك قلبها على أية حال. ومع ذلك فلم تستسلم لمخاوفها بغير مقاومة، فجعلت تقول: لعل المعاشرة تهيئ لها حياة لم تكن تحلم بها قط. ثم لم تكف عن التفكير، والتفكير فضيلة ذات حدين، فتساءلت: ترى ما هذه السعادة التي يمنيها بها؟ ألا تكون مغالية في أحلامها؟ يقول الفتى: إنه سيعود بثروة، وإنه سيفتح صالونا في الموسكي؛ ولكن هل يضمن لها هذا حياة أرغد من حياتها الراهنة؟ وهل هذا حقا ما تطمح إليه نفسها المجنونة؟! وضاعف هذا التفكر من حيرتها، وقوي شعورها بأن الشاب ليس رجلها المرموق، وباتت تدرك أن نفورها منه أشد من أن تلطفه المعاشرة. ولكن ما عسى أن تفعل؟ ألم ترتبط به إلى الأبد .. رباه، لماذا لم تتعلم حرفة كأولئك الفتيات من صويحباتها؟ أما لو كانت صاحبة حرفة لأمكنها أن تنتظر حتى تتزوج كما تشاء، أو لما تزوجت على الإطلاق! وأخذت حماستها تفتر، وشعورها يخمد، وعادت إلى ما كانت عليه قبل أن تهزها المقابلات وتغرها الآمال. هكذا كانت حين طلب السيد سليم يدها، وهكذا نبذت خطيبها الأول بغير تردد، ولكن بعد أن كانت نبذته في قلبها منذ أمد طويل.
ناپیژندل شوی مخ