54
وقال أبو بكر الصيرفي: «كانت المعتزلة قد رفعوا رءوسهم حتى أظهر الله الأشعري فجحرهم في أقماع السمسم.» ولكن الحق أنه ما كان له هذا لولا ما كان من المتوكل من الحجر عليهم، والتنكيل بهم، وتأييد الجمهور - بتأثير المحدثين - لهذه الحركة.
والواقع أن هذه الحركة، وأعني بها اضطهاد المعتزلة ونصرة المحدثين، كان لها أثر كبير في حياة المسلمين من ذلك العهد إلى اليوم، فقد لونت حياتهم بلون خاص، ظلوا يحافظون عليه طوال العصور المختلفة.
كانت طبيعة الاعتزال تدعو إلى التفلسف واتجاه العقل في مناح شتى من الحياة، وتحريره من كثير من القيود بعد الإيمان بالله ورسوله، والإيمان بالقرآن، وحصر الحديث في دائرة ضيقة - كما تقدم - وإشعار الإنسان بالمسئولية؛ لأن أعماله صادرة عنه، ولكنهم - مع الأسف - آمنوا بهذه الحرية وأرادوا أن ينفذوا الحرية بالقوة والسلطان، فكانت حرية بالإكراه.
وطبيعة المحدثين تدعو إلى الوقوف عند النصوص والتزامها، وتضييق دائرة العقل، واحترام الرواية إلى أقصى حد، والبحث وراء ألفاظ الحديث ومعانيه وأسانيده؛ وهذا - مع اعترافنا بما له من مزايا - يستتبع نمطا في التفكير خاصا يسود فيه تقديس النقل أكثر من تقديس العقل، والتقليد دون الاجتهاد، والوقوف عند النصوص دون التعمق في مغازيها ومراميها، والنظر إلى الفلسفة والبحث العقلي في الكليات نظر البغض والكراهة، وعد المفكر على هذا النمط ملحدا أو زنديقا ... إلخ.
وهذا هو الذي ساد عقول كثير من المسلمين منذ خنق الاعتزال، فاحترمت نصوص الكتب أكثر مما احترم نقد العقل، واحترم العالم واسع الاطلاع بالنصوص الدينية واللغوية، أكثر مما احترم قليل الحفظ واسع أفق العقل، وأكرم العالم المقلد أكثر مما أكرم العالم المجتهد، ونظر إلى المحدث والفقيه بخير مما نظر إلى الفيلسوف والمفكر الناقد، وضاقت دائرة التفلسف إذا قيست بدوائر العلم في الفروع الأخرى .
كل هذا وأكثر منه كان نتيجة لهذه الحركة، وأعتقد أن الأتراك في ذلك العصر مسئولون لدرجة كبيرة عن هذا؛ فطبيعة عامتهم لا تقبل الجدل الكلامي، ولا كثرة المذاهب الدينية؛ فالأتراك في جميع عصورهم قل أن نرى منهم من اعتنق مذهبا في الأصول غير مذهب أهل السنة، وفي الفروع غير مذهب أبي حنيفة، وقل أن نرى بين علمائهم خصومة في المذاهب كالتي كنا نراها في العراق من خوارج وشيعة ومرجئة ومعتزلة ونحو ذلك، إنما هو مذهب واحد يسود - غالبا - ويتوارث، ومع هذا فلسنا ننكر أن فيهم أفذاذا في سعة النظر وقوة التفكير - كما سيأتي بيانه - ولكن هذا هو النظر العام. (2)
الإيقاع بالشيعة إيقاعا بالغا؛ ففي سنة 236ه «أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي، وهدم ما حوله من المنازل والدور، وأن يبذر ويسقى موضع قبره، وأن يمنع الناس من إتيانه؛ فنادى بالناس في تلك الناحية: من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة حبسناه في المطبق. فهرب الناس وتركوا زيارته، وخرب وزرع. وكان المتوكل شديد البغض لعلي بن أبي طالب ولأهل بيته، وكان يقصد من يبلغه عنه أن يتولى عليا وأهله بأخذ المال والدم، وكان من جملة ندمائه عبادة المخنث، وكان يشد على بطنه تحت ثيابه مخدة، ويكشف رأسه وهو أصلع، ويرقص بين يدي المتوكل والمغنون يغنون: قد أقبل الأصلع البطين، خليفة المسلمين. يحكي بذلك علي - عليه السلام - والمتوكل يشرب ويضحك»،
55 «وقيل: إن المتوكل كان يبغض من تقدمه من الخلفاء - المأمون والمعتصم والواثق - في محبة علي وأهل بيته، وإنما كان ينادمه ويجالسه جماعة قد اشتهروا بالنصب والبغض لعلي، منهم علي بن الجهم الشاعر الشامي ... وعمرو بن فرج الرخجي، وأبو السمط من ولد مروان بن أبي حفصة ... وابن أترجة، وكانوا يخوفونه من العلويين، ويشيرون عليه بإبعادهم والإعراض عنهم والإساءة إليهم، ثم حسنوا له الوقيعة في أسلافهم الذي يعتقد الناس علو منزلتهم في الدين، ولم يبرحوا به حتى ظهر منه ما كان، فغطت هذه السيئة جميع حسناته».
56
ناپیژندل شوی مخ