20
فاعترض عليه الفتح وأبى هذا التقسيم، ودعا إلى أن ينظر إلى الجند كوحدة لا كأجناس، وأن هذا الجند مع اختلاف أجناسه متقارب الأنساب، فالخراساني والتركي متقاربان في الشبه والصقع، وأن القرب بينهما أكثر مما بين العدنانيين والقحطانيين مع أن كلهم عرب، وأن البنويين خراسانيون؛ لأن نسب الأبناء نسب الآباء، وأن الموالي أشبه بالعرب وأقرب إليهم، وهو عرب في المدعى وفي العاقلة وفي الراية، وقد جاء: «مولى القوم منهم»، و«الولاء كلحمة النسب»، وأن الأتراك صاروا من العرب لهذا المعنى؛ لأن الأتراك موالي الخلفاء، فهم موالي لباب قريش. وحكي عن الفتح، أن هذه الأجناس بهذا المعنى يجب أن يكونوا متوازرين متكاتفين محبين للخلفاء ... إلخ إلخ.
وهو كلام جيد نظريا، ولم يكن واقعا عمليا، فالدعوة الجنسية كانت بالغة أشدها، والعداوة بينهم متغلغلة في أعماق صدورهم.
ثم حكى الجاحظ عن «الفتح» أن هذا القائل ذكر مناقب لكل جنس من الجنود وألغى ذكر الأتراك، فذكر أن الخراسانيين يفخرون ويقولون: إنا دعاة الدولة العباسية ونحن النقباء والنجباء وأبناء النجباء، وبنا زال ملك بني أمية، ونحن الذين تحملوا العذاب وبضعوا بالسيوف الحداد، ندين بالطاعة ونقتل فيها، ونموت عليها؛ ونحن قوم لنا أجسام وأجرام، وشعور وهام، ومناكب عظام، وجباه عراض، وسواعد طوال ، وأبداننا أحمل للسلاح، ونحن أكثر مادة ونحن أكثر عددا وعدة، ومتى رأيت مواكبنا وفرساننا وبنودنا التي لا يحملها غيرنا علمت أنا لم نخلق إلا لقلب الدول وطاعة الخلفاء وتأييد السلطان؛ ونحن أرباب النهى وأهل الحلم والحجى؛ وأهل النجابة في الرأي، والبعد من الطيش، وليس في الأرض صناعة عراقية ولا حجازية، من أدب وحكمة، وحساب وهندسة وارتفاع بناء، وفقه ورواية، نظرت فيها الخراسانية إلا فرعت فيها الرؤساء وبذت فيها العلماء ... إلخ إلخ.
والعرب يفخرون بالأنساب وبالشعر الموزون الذي يبقى بقاء الدهر، ويلوح ما لاح نجم، وبالكلام المنثور والقول المأثور وتقييد المآثر، إذ لم يكن ذلك من عادة العجم - قالوا - ونحن أصحاب التفاخر والتنافر، والتنازع في الشرف والتحاكم إلى كل حكم مقنع، وكاهن شجاع، ونحن أصحاب التعاير بالمثالب والتفاخر بالمناقب، نقاتل رغبة لا رهبة. ثم ردوا على الخراسانيين بأن أكثر النقباء في الدعوة العباسية كانوا من العرب ... إلخ.
وفخر الموالي بأنهم موضع الثقة عند الشدة، وأن شرف السادة راجع إليهم، إذ هم منهم، ثم لهم الطاعة والخدمة والإخلاص وحسن النية - قالوا - ونحن أشكل بالرعية، وأقرب إلى طباع الدهم، وهم بنا آنس، وإلينا أسكن، وإلى لقائنا أحن، ونحن بهم أرحم، وعليهم أعطف ... إلخ.
وقال البنوي: إنا أصلنا خرساني وهو مخرج الدولة، ومطلع الدعوة، ولنا بعد في أنفسنا ما لا ينكر، من الصبر تحت ظلال السيوف القصار، والرماح الطوال، ولنا معانقة الأبطال عند تحطم القنا وانقطاع الصفائح، ونحن أهل الثبات عند الجولة، والمعرفة عند الخبرة، مع حسن القد، وجودة الخرط، ثم لنا الخط والكتابة، والفقه والرواية، ولنا بغداد بأسرها تسكن ما سكنا وتتحرك ما تحركنا؛ ونحن تربية الخلفاء وجيران الوزراء، ولدنا في أفنية ملوكنا، ونحن أجنحة خلفائنا، أخذنا بآدابهم، واحتذينا على مثالهم.
فأخذ الجاحظ بعد يشيد بفضل الترك، فيزعم أن كل الأجناد يرجعون إلى شيء واحد كما قال «الفتح»؛ فالبنوي خراساني، والخراساني مولي، والمولي عربي بالولاء، والأتراك خراسانية (أي بحكم القرب والجوار)، فصار البنوي والخرساني والمولي والعربي والتركي شيئا واحدا، فصار فضل التركي إلى الجميع راجعا، وصار شرفهم زائدا في شرفهم، ورجا أنه إذا عرف سائر الأجناد ذلك تسامحت النفوس، ومات الضغن وانقطع سبب الاستثقال.
بدأ الجاحظ دفاعه عن الأتراك بحكاية قصها عن قوم أيام المأمون تذاكروا أي الاثنين أشجع: الخارجي أم التركي؟ وكان الخوارج معروفين بين الناس إذ ذاك بأنهم أشجع جند وأصبر الناس على قتال، وانتهى من هذه القصة بنتيجة هي أن التركي أشجع من الخارجي؛ لأن الخوارج عرفوا بعشر مزايا في القتال، والتركي يفضلهم فيها جميعا؛ لأنه أثبت عزما حتى لقد عود برذونه ألا ينثني، وهو أصدق رماية؛ فالتركي يرمي الوحش والطير والناس في سرعة وإصابة، والخوارج إذا ولوا فقد ولوا، ولكن التركي إذا ولى فهو السم الناقع؛ لأنه يصيب بسهمه وهو مدبر كما يصيب بسهمه وهو مقبل.
والتركي في حال شدته معه كل شيء يحتاج إليه لنفسه ولسلاحه ولدابته، والتركي هو الراعي وهو السائس، وهو الرائض وهو النخاس وهو البيطار، وهو الفارس، وهو أصبر على السير وعلى الصعود في ذرى الجبال، والتركي في بلاده لا يقاتل على دين، ولا على تأويل، ولا على ملك، ولا على خراج، ولا على عداوة، ولا على وطن، وإنما يقاتل على السلب، فكيف إذا انضم إلى ذلك غضب أو تدين، أو عرض له بعض ما يصحب القاتل من العلل والأسباب، والأتراك قوم وضع بنيتهم على الحركة وليس للسكون فيهم نصيب، وهم أصحاب توقد واشتعال وفطنة، وهم يرون الاكتفاء بالقليل عجزا، وطول المقام بلادة، والراحة غفلة، والقناعة من قصر الهمة.
ناپیژندل شوی مخ