دفع به والده الثري الإقطاعي إلى الأزهر الشريف، ولم يكن يتردد على الأزهر إلا المساكين والفقراء والهاربون من السخرة التي يعانيها الفلاحون، وكانت للأزهر أوقاف ومخصصات لطلابه أو للمجاورين - كما كان الناس يسمونهم في تلك الأيام - وهذه الأوقاف والمخصصات تتحول إلى «جراية»، وهي كمية كبيرة من الخبز يتسلمها المجاور، فيسد رمقه ببعضها ويبيع بعضها الآخر بملاليم يسد بها نصيبه من إيجار الغرفة التي يسكنها مع زملائه.
وما يتبقى من الملاليم ينفقه على الوجبة اليومية الرئيسية، وهي مؤلفة من الفول أو العدس أو الطعمية، وثمن الوجبة مليم واحد.
وكانت الغرفة الواحدة تتسع عادة لخمسة أشخاص، ولم يكن إيجارها يزيد على ثلاثين قرشا في الشهر ، أي ... أي إن ما يدفعه الفرد بدل إيجار في اليوم الواحد لا يتجاوز المليمين.
ومن كان يستقل بغرفته يعد مجاورا غير عادي!
ولم يكن مصطفى عبد الرازق وأخوه علي عبد الرازق، من المجاورين العاديين، ولا من المجاورين غير العاديين، بل كانا من السراة الأماثل؛ فقد كانا يعيشان في قصر والدهما حسن عبد الرازق باشا في القاهرة، وكان الباشا عميدا لأسرة عبد الرازق، وهي أسرة تملك آلاف الأفدنة في محافظة المنيا، وتربطها علاقات نسب وقرابة بأكثر العائلات الغنية المنتشرة في هذه المنطقة بالذات.
كان الطالبان الأزهريان في عزلة عن زملائهما المجاورين، فهما يسكنان قصرا تتوافر فيه كل أسباب الرفاهية والراحة، ويأكلان أشهى وألذ أنواع الطعام، ويرفلان في أفخم الأثواب، وزملاؤهما يسكنون كل خمسة وأكثر، غرفة في «ربع» ليس فيها ماء ولا طعام، غير الخبز الجاف والبصل والملح، أجسامهم عليلة، وملابسهم متسخة رثة!
إن حلقة الدرس تجمع بينهم وبين الطالبين الثريين، فإذا انتهى الدرس انتهت علاقة الطالبين بزملائهما جميعا.
إن أحد الطالبين، هو علي عبد الرازق، ظهرت له بعدما نال شهادة العالمية، اتجاهات فكرية متحررة ضد الخلافة، وقد أخرجته اتجاهاته من زمرة العلم، وصدر قرار بفصله من منصب القاضي الشرعي، ودارت الأيام فرد إليه الأزهر شهادة العالمية، وصار هو الآخر وزيرا وباشا!
ولكن لندع علي عبد الرازق جانبا؛ فقد كان أصغر من مصطفى، وكانا يطلبان العلم في الأزهر، كان علي في أولى الدرجات، وكان مصطفى قد اجتاز بضع درجات في طلب العلم.
ولقد عاش مصطفى عبد الرازق في الأزهر فترة عصيبة، هي الفترة التي عاد فيها الإمام محمد عبده من منفاه وتولى منصب الإفتاء، وقاد حركة الإصلاح في الأزهر، وقد قامت بينه وبين الخديو حرب طاحنة، وهب كبار علماء الأزهر يدرءون خطر محمد عبده؛ فقد كان امتدادا لجمال الدين الأفغاني، كان يدعو إلى صداقة العلم والدين، ويطالب بفتح باب الاجتهاد، وينادي بأعلى صوته: «إن الشريعة الإسلامية - بما تقرر فيها من قاعدتي الاجتهاد ورعاية الأصلح - من الشرائع التي توافق كل زمان ومكان ، وتجيز لكل ضرورة حكما يوافق مقتضى المصلحة والحال، مع اعتبار هذه القاعدة شرعا أيضا.» وقد دعا بإلحاح إلى دراسة أصل الشريعة؛ حتى تضع أحكاما توافق بين جوهر الدين وأحوال الزمان.
ناپیژندل شوی مخ