ولم يكد كتاب «تحرير المرأة» يخرج من المطبعة، حتى هبت عواصف السخط والنقمة على قاسم أمين.
ولم يهتز قاسم للعواصف الحمقاء؛ فقد كان يدعو إلى فكرته بمنطق ووعي وإيمان، وكان الضمير هو القوة الوحيدة التي يعتمد عليها، والقوة الوحيدة التي يخشاها.
فهو صاحب سلوك خاص مستقل، في أفكاره ومشاعره ونظرته العامة إلى الأمور، وقد يرضى المجتمع عن هذا السلوك وقد يثور عليه، ولكن قاسم أمين لا يبالي الرضا ولا يبالي الغضب، إن كل ما يباليه هو أن يتمشى سلوكه الذهني والعاطفي والاجتماعي، مع فسلفته القائمة على تنمية الحياة بالحب والخير والحرية والجمال ونقاء الضمير.
ويبدو هذا واضحا في أحكامه القضائية، وفي سعيه إلى إنشاء الجامعة المصرية، وفي مطالبته بتحرير المرأة، وفي دعوته إلى تيسير قواعد اللغة، حتى يستطيع الناس أن يقرءوا ليفهموا، لا أن يفهموا ليقرءوا.
كان قاضيا رحيما، وكانت أحكامه تتعارض أحيانا مع حرفية القانون، ولكن الأسباب التي يشرح بها ما يصدره من أحكام، لفتت إليه انتباه المشتغلين بالفقه والقانون وكبار رجال القضاء، ورأوا في هذه الأسباب نظريات قانونية أكثر عدالة من القانون نفسه؛ ولهذا شق طريقه في السلك القضائي، حتى وصل إلى منصب المستشار وهو في حدود الأربعين، وكانت هذه السن تعد طفولة بالنسبة إلى قاض عادي، فضلا عن مستشار في محكمة الاستئناف!
وقد ساعده على انطلاق تفكيره في حرية، وإبداء رأيه بشجاعة، ثقافته الواسعة، واستقامة خلقه، فهو يعتز بكرامته إلى أبعد حد، ولا يتملق الحكام وأصحاب السلطان، ولا يمارس من العادات والهوايات ما يثير شكا أو ريبة، وكان يقضي أكثر وقته في بيته المنعزل عن ضوضاء المدينة، يعكف على دراساته القضائية، والأدبية، والعلمية، والاجتماعية. وهذه الشخصية المهذبة المترفقة، ليست وليدة أسرة غنية ذات جاه؛ فقاسم أمين من عائلة متوسطة الحال، أبوه مصري، وجده أمير كردي، ولكن إمارة الجند انتهى ثراؤها بوفاة صاحبها! شخصية قاسم أمين إذن نبعت من نفسه، وصقلها العلم والخلق ونفسيته الطيبة المتحررة المشغوفة بالجمال.
وقد درس في فرنسا، وعاد إلى مصر في عام 1885، وشغل إحدى الوظائف القضائية، وظل منذ ذلك التاريخ يسير في الحياة على منهجه المستقيم؛ زوج مثالي، أب مثالي لابنة وحيدة، قاض مثالي، مفكر مثالي، مصلح اجتماعي مثالي.
وكانت رياح الغضب تهب عليه من الرأي العام، فلا تؤثر في آرائه، ولا تزعزع عقيدته، ولا تثير أعصابه، فقد كان هادئا وديعا، وكان يؤمن بالحرية إيمانا مطلقا، يدافع عن حريته، ويدافع عن حرية مخالفيه، ولو كانت طريقتهم في الجدل تنم عن الجهل والتعصب، ورميه بأقذع الشتائم والسباب.
إن القاضي قاسم أمين، لم يصدر حكما واحدا بالإعدام على أحد من المجرمين؛ لأنه يرى - منذ ستين عاما - أن الإعدام عقوبة لا يمكن علاجها إذا ثبت خطأ القاضي.
ومن أقواله المأثورة: «إن العفو هو الوسيلة الوحيدة التي ربما تنفع لإصلاح الذنب، ومعاقبة الشر بالشر إضافة شر إلى شر.»
ناپیژندل شوی مخ