كان لسانه يرطن أحيانا بلغة الأتراك، وينطق دائما باللغة العربية شعرا ونثرا.
وكانت كل الملابسات التي أحاطت به، توحي بأنه لن يكون مصريا بتفكيره وتعبيره، فقد عرفنا أن الجو العائلي الذي تنفس فيه كان جوا غير مصري.
ولم يكن الجو العام خيرا من ذلك الجو الخاص؛ فقد كانت مصر ترزح في قيود سطوات أجنبية متعددة؛ سطوة المماليك، ثم الغزو الفرنسي بقيادة نابليون، ثم سيطرة الدولة العثمانية وحكم محمد علي وأسرته من بعده وامتلاكهم مصر، أرضا وشعبا وثروة وعرشا. وعندما كان محمد علي واليا، تمت ولادة محمود سامي البارودي، وقد عاصر البارودي عباسا الأول والخديو إسماعيل والخديو توفيقا، ومات في عام 1904، في عصر عباس الثاني.
ولكن البارودي - الذي تآمرت ظروفه الخاصة وظروفه العامة على تكوينه في صورة خائن للشعب - وقف إلى جانب الشعب وكان بطلا، وخاض مع الزعيم العظيم أحمد عرابي، معركة الحرية والشرف والحياة ضد الخديو توفيق، أو ضد الإنجليز الذين استنجد بهم الخديو الخائن وغزوا بلادنا عام 1882.
وقد دفع ثورته وبطولته عذابا شديدا في المنفى سبعة عشر عاما، فعانى في «سرنديب» المرض والحنين إلى وطنه وأبنائه، وبكى شريكة حياته التي ماتت وهو بعيد عنها.
ولما أصيب بالعمى، سمحت الحكومة البريطانية بعودته إلى بلاده، فظل حوالي خمس سنوات قعيد بيته، وفي 12 ديسمبر سنة 1904 لفظ آخر أنفاسه.
وإذا كانت الظروف السياسية والاجتماعية لا تسمح لمثل البارودي أن يكون ثائرا، فإن الظروف الثقافية ما كانت لتسمح للبارودي بأن يكون شاعرا عربيا من طراز الشعراء الفحول.
فقد كان عصر البارودي يمثل آخر ما وصل إليه الشعر والأدب من هبوط في الشكل والمضمون، فليس للشعر ولا للكتابة، والأسلوب السائد في الشعر والنثر معا يعتمد على الجناس الرخيص، والتلاعب بالألفاظ والركاكة في التعبير، والزخارف التافهة التي تشبه ألوان الحناء والهباب!
وفجأة، ظهر في مصر شاعر فحل، يتحدى بجزالة لفظه ومتانة عبارته أشهر الشعراء القدامى، فمن أين له هذا؟! إنه لم يدرس الأدب في الأزهر، ولم يدرسه بطبيعة الحال في المدرسة الحربية، ولكنه كان موهوبا، وقد صقل موهبته بذاكرته القوية، التي وعت عشرات الألوف من قصائد شعراء الجاهلية والإسلام، وكانت له أذن موسيقية أثرت في صفاء الديباجة ورنين الجملة الشعرية.
وأكثر شعر البارودي ينطوي على محاكاة قصائد من سبقوه من الشعراء، ولكن هذه المحاكاة اختفت في عدة قصائد تجلت فيها أصالة الشعر، وتحددت فيها شخصيته الفنية.
ناپیژندل شوی مخ