تناديه باسمه محمود دون حرج، يناديها بدور دون لقب، يقرأ عليها عموده قبل أن ينشره، تقرأ عليه بعض صفحات روايتها السرية، تخفيها عن زوجها كأنما وصيتها السرية بعد الموت. مات أبوه بسرطان الخصية المتسرب من رأس القضيب. في المأتم جلس إلى جوار أمه يستمع إلى ترتيل القرآن، كان في الثامنة من عمره، أمه ترتدي ثوب الحداد الأسود على أبيه، تنشج ببكاء مكتوم، ارتبط الموت في طفولته بقراءة القرآن وكثرة الزوار والصحون الكثيرة المليئة بالطعام. يتشمم رائحة البخار المتصاعد من اللحم المشوي، تسري في أذنيه التلاوة بصوت ناعم منغم مع رائحة الشواء الشهي، تصحو شهوته للأكل مثلما تصحو أيام الصيام في رمضان، حين ينتظر مدفع الإفطار ليلتهم الطعام، يشعر بالإثم إن اختلس رشفة ماء قبل انطلاق المدفع، أو خرجت من أمعائه ريح وهو يركع بين يدي الله.
كانت وصية أبيه فضيحة، فجيعة أكثر من موته. كانت له زوجة أخرى في الخفاء، أنجبت منه ولدين اثنين، شاركه الولدان في ميراث أبيه، وشاركت أمهما أمه في البيت والعقار. خلعت أمه الحداد والخمار، ارتدت ثوبا ملونا، وضعت في شعرها وردة حمراء، أطلقت زغردة ممدودة في الأفق فرحا بموت أبيه. كان يحب أباه وهو طفل، يتناقص حبه لأبيه كلما كبر وعرفه أكثر، لم تظهر حقيقة أبيه إلا بعد أن مات وأصبح مثل أمه يكره أباه، يفرح بموته. مع ذلك أصبح نسخة طبق الأصل عنه في الشكل والجوهر، في السلوك العلني والسري، في النشاط الحزبي والجنسي.
كان زكريا الخرتيتي يغط في النوم حين تسللت بدور من جواره، سارت على أطراف أصابعها إلى غرفة مكتبها. أحداث الرواية تدور في رأسها، تسري في جسدها رعشة، تشبه حمى الملاريا، تتقلص عضلات وجهها مثل مريض نفسي يتلقى جلسة كهربية، أو محكوم عليه بالإعدام داخل الكرسي الكهربائي. يتجمد القلم في يدها، لا يتحرك قلمها فوق الورق، عقلها واقف، منذ تزوجت زكريا الخرتيتي توقف عقلها عن العمل. تزوجت رجلا لا تحبه، كانت تحب رجلا آخر مقتولا، غير موجود إلا في الخيال أو الحلم، الحب لا يكون إلا في الخيال، يأتي الحب على شكل أجزاء في الحلم، أو صفحات في رواية من هذه الصفحات المتفرقة، من هذه الأجزاء المبعثرة يصنع خيالها رجلا آخر، يملأ الفراغات بين الأجزاء حروفا فوق السطح أو بين السطور أو تحت السطور، يتشكل الحب الذي تريده فوق الورق، ترتسم ملامح الرجل بالحبر، ملامح مجهولة لا تعرفها، كلما قلت معرفتها بالرجل زاد حبها له.
كان زوجها زكريا الخرتيتي يطبع على وجهها قبلة، تحية الصباح كل يوم. يتناولان الفطور إلى مائدة واحدة كل يوم وكذلك الغداء والعشاء، يقول لها بأدب الطبقة العليا الخالي من الأدب: من فضلك ناوليني الخبز.
تمد له يدها بصحن الخبز المحمص في الفرن، يبتسم لها ويقول: شكرا.
تبادله الابتسام، وتقول له بأدب الزوجات من العائلات الكريمة: لا شكر على واجب.
يرمقها بنظرة مؤدبة ناعمة تشبه الحب، تبادله النظرة بنظرة مشابهة وحركة رأس مشابهة، تشبه رءوس العرائس، المشدودة بخيوط غير مرئية من أعلى المسرح.
تثقل رأسها بالنوم وهي جالسة ممسكة بالقلم، يغلبها النوم وهي تكتب الرواية. تحب النوم أكثر من الكتابة، في أعماقها تكره الكتابة كما تكره زوجها، لا تستطيع أن تبوح بالسر لأحد. حصلت على جائزة الدولة في الكتابة، أصبحت تحمل لقب الكاتبة الكبيرة مثل زوجها الكاتب الكبير، وابنتها مجيدة الخرتيتي الكاتبة الكبيرة، حصلت على جائزة الأم المثالية في عيد الأم، والزوجة المثالية في عيد الزواج، ورفيقة السيدة الأولى في العيد العالمي للنساء. يسقط رأسها ثقيلا فوق المكتب، يحدث صوتا مسموعا مثل قطعة حجر تسقط، جسدها يرتعش في اهتزازات متتالية، تمد يدها إلى الزر في الحائط تقطع تيار الكهرباء، تهمس بصوت متحشرج متقطع الأنفاس: أرجوك يا دكتور، كفاية، مش عاوزة جلسات كهربة، عقلي صاح من الكهربة يا دكتور. ذاكرتي ضاعت مش فاكرة حاجة خالص في حياتي. - هو ده المطلوب يا بدور، لازم تنسي، النسيان هو هدف العلاج. - النسيان خطير يا دكتور، الرواية طارت من دماغي، مش فاكرة حاجة منها خالص، لا يمكن أكتب الرواية إذا ضاعت الذاكرة. - صحتك يا بدور أهم من الرواية، في ستين داهية الرواية يا بدور. - الرواية أهم من حياتي يا دكتور، في ستين داهية حياتي. - في ستين داهية كل حاجة إلا صحتك يا بدور.
يأتيها صوت الطبيب وهي غارقة في النوم، أو مستغرقة في الكتابة. تدرك أنه الألم، ليس إلا الألم ما يدفعها إلى الكتابة، وهو الألم ذاته الذي يمنعها من الكتابة.
تشد جفونها، تفتح عينيها، ترى زوجها يغط إلى جوارها في النوم، شخيره متواصل منتظم مثل دقات الساعة، تمد ذراعها من تحت الغطاء تضرب الساعة ضربة قوية، وتلقي بها من فوق الكوميدينو إلى الأرض. يفتح زوجها عينيه على الصوت، يصحو من النوم، ويصرخ في وجهها: تكسري الساعة ليه كده؟ - لأني مش قادرة أكسر راسك.
ناپیژندل شوی مخ