لم تطلب له مجيدة الخرتيتي فنجان قهوة، كانت ترشف قهوتها من فنجان حوافه مذهبة، إلى جواره كوب ماء كبير مليء بقطع الثلج، أزيز جهاز التكييف ناعم خافت يشبه حفيف هواء، بين شفتيها الحمراوين السمينتين سيجار أسود اللون فاخر النوع من هافانا يدخنه أبوها ورئيس التحرير، وكبار الأدباء والصحفيين من أصحاب الأعمدة اليومية والمقالات الأسبوعية، ما إن يحصل الواحد منهم على اللقب أو المنصب حتى يظهر السيجار الأسود بين شفتيه، والزبيبة السوداء فوق جبينه، والسبحة الصفراء بين يديه. وإن كان من المؤمنين بالمسيح والإنجيل تظهر الزبيبة دون أن يسجد بين يدي الله، والسبحة يحركها بين أصابعه دون أن يسبح بحمد الله، أو يتمتم بآيات من القرآن. يقول: إنه قبطي دينه المسيحية لكن ثقافته إسلامية، يذهب إلى الجامع دون وضوء يوم الجمعة ليصلي وراء الرئيس أو الوزير، يبسمل ويحوقل ويقرأ الشهادة والفاتحة دون أن يحرك شفتيه إلا قليلا، يسبل جفونه مع البسملة والبربشة والحوقلة والتمتمة دون صوت أو مجرد هواء ساخن يخرج من بين شفتيه المتوردتين.
من وراء مكتبها الفخم أطل رأسها الصغير، وجهها عريض مملوء باللحم متهدل الملامح، بشرتها بيضاء رمادية. هذا البياض الشاحب يميز كبار الكتاب من الرجال والنساء، الشباب والعجائز، اللون الرمادي للوجه والعينين واليدين، القلم أيضا بين أصابعهم لونه رمادي، كلماتهم في الأعمدة والمقالات رمادية اللون مصنوعة من مسحوق ترابي، من حروف منسحقة تحت مطرقة حديدية، رقيقة شفافة يشف من تحتها الورق الأبيض، يكتبون بالحبر الأبيض أو الحبر السري غير المرئي، كما يفعل السجناء داخل الزنازين، لا يعرف أحد ماذا يقولونه، وهل هم معارضون أم مؤيدون، يلقون كلماتهم بدخان سيجارهم، مثل الإله يختفون وراء السحب.
كانت ترتدي تاييرا أخضر من الحرير الطبيعي، حول عنقها إيشارب خفيف أحمر شفاف، معقود أسفل ذقنها المدبب على شكل وردة، يداها صغيرتان أصابعهما قصيرة بضة، أصابع طفلة صغيرة لولا النظرة العجوز الحزينة في عينيها، بشرة يديها بيضاء تعلوها بقع حمراء، أخفت يديها داخل جيوب التايير حين رأته يحملق فيهما. - عندي التهاب في الجلد يا محمد، نوع من الحساسية لرائحة ورق الصحف، مرض من أمراض مهنة الكتابة، إنت يا محمد صحفي ممتاز، يمكن قلمك أن يساهم في العدد الخاص بإنجازات السيدة الأولى والسيد الرئيس طبعا، إنت عارف البلد كلها لا يمكن تمشي إلا بتوجيهات سيادته، أطلب لك فنجان قهوة يا محمد؟ - لا شكرا يا أستاذة. - أنت واقف ليه؟ اقعد يا محمد. - شكرا يا أستاذة. - أطلب لك عصير لمون مثلج؟ - شكرا يا أستاذة، أنا في الحقيقة عندي قرحة في المعدة، ولا أشرب أي شيء خارج البيت. - قرحة إيه يا محمد؟ كلنا عندنا قرح في جميع الأعضاء وليس في المعدة فقط، هذا جزء من أمراض مهنتنا، إحنا الصحفيين والأدباء والأديبات ...
ضغطت بأسنانها على كلمة الأدباء والأديبات، وكأنما تدخل نفسها قسرا بهذا الضغط في زمرة الأدباء والأديبات، كان أبوها يحلم أن تكون ابنته مي زيادة الثانية. نشرت قصة قصيرة في بداية حياتها، لم يقرأها إلا أبوها وأمها.
دق جرس التلفون الأحمر فانشغلت طويلا بالمكالمة، أطلقت بين الحين والحين ضحكات ناعمة متقطعة وشهقات، مع الشهيق والزفير يهتز جسدها من وراء المكتب في نشوة، وهو واقف أمامها لم يقعد، لا يريد أن يقعد. يود لو استأذن وغادر المكتب، يود لو اعتذر لها عن كتابة مقالها، يود لو يضرب البنورة بقبضة يده فيكسرها، في أعماقه غضب مكبوت منذ الطفولة، تحول إلى قرحة في المعدة.
انتهت المكالمة والتفتت إليه، كأنما تكتشف وجوده.
قال لها بصوت خافت: أستأذن يا استاذة، عندي موعد مع الدكتور لإجراء أشعة على المعدة. - اقعد يا محمد، أنا عاوزة المقال بسرعة، عشان ينزل في عددنا الخاص عن الإنجازات، طبعا إنت عارف إن الإنجازات كثيرة في كل مجال. عليك إنك تختار منها ما تشاء بمطلق الحرية، عليك إنك تسلمني المقال قبل نهاية الأسبوع، ياللا شد حيلك واكتب حاجة حلوة زي عوايدك، قرحة المعدة إيه يا محمد، ده مرض نفسي ناتج عن قرحة بالعقل.
ضحكت مجيدة بصوت عال حاد يشبه صوت أبيها، حركت رأسها إلى الوراء وهي تقهقه كما يفعل أبوها مع صغار المحررين . - دي مجرد دعابة يا محمد، أنا باضحك معاك، أنا عارفة إن عقلك يوزن بلد.
بعد أن خرج محمد أطبقت الأستاذة مجيدة شفتيها في صمت طويل، سمعت صوتا في أعماقها يهمس: القرحة في عقلك أنت يا مجيدة وعقل أبوكي ورئيس التحرير والوزير والرئيس والسيدة الأولى.
نظرت إلى ساعتها وانتفضت واقفة: يا خبر؟ كنت حانسي ميعاد الدكتور!
ناپیژندل شوی مخ