تدب زينة بنت زينات بقدمها فوق خشبة المسرح، ترقص وتغني وتنشد الشعر، تشق الكون بقامتها الطويلة الصلبة، تمشي فوق الخط الفاصل بين السماء والأرض، تمشي عليه بقدميها لتكسر الحدود، لتفتح لنفسها طريقا لم يمش فيه أحد من قبل. النافذتان إلى روحها تفتحهما وتغلفهما بإرادتها، إرادة صلبة مثل قامتها الصلبة، هضمت الطوب والزلط، أصبحت أشد صلابة من الزلط.
المقلتان المتوهجتان في عينيها ليس لهما عمر، تبدو فتاة تحت العشرين عاما، أو امرأة فوق المائة عام. بريقهما ساحر خلاب للعيون، خادع للبصر والسمع واللمس والحواس الأخرى، يظنه الرجال دعوة للحب، وهو ليس إلا ضوء الشمس المنعكس في عينيها، يصفها أصحاب الأعمدة بأنها امرأة ملتهبة. نقاد الفن والأدب يقولون: إنها من ذوات الدم الساخن الفائر ، ترد عليهم بأغنية من أغانيها الساخرة؛ تقول: إنهم من ذوي الدم البارد الراكد في عروقهم المتجمدة. قال عنها رئيس النقد الأدبي: إنها أسوأ شيء في البلاد، استخدم كلمة «شيء» في وصفها وكلمة «أسوأ»، أراد بذلك أن يخرجها من جنس النساء وجنس الأدب معا.
في حضورها فوق خشبة المسرح ينسى الناس ما يكتبه النقاد عنها، يطغى حضورها على الكتب والمقالات والدراسات النقدية، يصبح لجمالها فضيلته الخاصة بها، تتحرك عيون الناس إليها بغير إرادتهم، أو بإرادتهم الخفية المكبوتة في الأحشاء، تتحرك عيونهم نحوها أو نحو المقلتين، العينين، النافذين المفتوحتين إلى السماء وقاع البحر، لا تنظر العيون إليهما فحسب، بل تدخل في أعماقهما، تكتشفهما، تبقى فيهما، لا تغادرهما وإن انطفأت الأنوار وغادروا المسرح.
كتبت بدرية في رسالة سرية إلى بدور أمها: هل أنت التي ولدت هذا الجمال يا بدور؟ كيف تلدين هذا الجمال وتعجزين عن وصفه في روايتك؟ أيكون رحمك أكثر إبداعا من قلمك؟! هذا الجمال لا يسحقنا باللذة فحسب، هذا الجمال يمتلئ بالألم والحيرة والاستسلام لذلك الضوء المتوهج في العينين، نشعر بالإحباط والضعف أمام قوة هذا الجمال أو السحر، لا نقوى على التخلي عنه، يشدنا بقوة المعرفة إلى ما لا نعرف، يبعث فينا المجهول بالقلق والتهديد إلى حد الرغبة في المقاومة والانتقام، ذلك الجمال المنسق في ما يشبه العظمة، إلى حد أن نفقد توازننا، أن نفقد عظمتنا الموهومة، وننسى من نكون. نحن آلهة الأدب والفن والثقافة، تفشل لغتنا القاصرة الموروثة عن تعريف هذا الجمال، مثل الحب، مثل الحياة، مثل الله، مثل الشيطان، وكل المجهولات في اللغة والحروف.
لم تكن زينة بنت زينات تأبه لهذه الكلمات المنمقة، لم تحصل زينة بنت زينات على شهادة عالية، لا تنتعل حذاء له كعب عال، لا ترتدي فوق وجهها حجاب العفة، ولا مساحيق التبرج والخلاعة، ولا أساور في يديها أو خلاخيل في قدميها، ولا تدهن شفتيها وجفونها بالأحمر أو الأخضر أو الأزرق.
لم تكن زينة بنت زينات تشعر بجمالها، لا تشعر بعظمتها أو موهبتها، كان كل هذا شيئا طبيعيا لديها، لا يستدعي الإحساس به، لا يستدعي التشدق به، مثل الحرية لا يتحدث عنها إلا من يفقدها، مثل الصحة؛ تاج على رءوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى، مثل الحياة تاج على رءوس الأحياء لا يراه إلا الموتى.
في المدرسة كانت زينة بنت زينات ترتدي مريلة من الدمور الخشن الرخيص، الكولة معوجة، الحزام غير مربوط، شعرها منكوش، رباط حذائها مفكوك.
لم تكن زينة بنت زينات تنظر في المرآة، لم يكن في بيتها مرآة، لم يكن لها. تخرجها الناظرة من الطابور، تلسعها على أصابعها بالمسطرة، تعاقبها بالوقوف ساعة أو ساعتين وجهها للحائط ويداها مرفوعتان. لم تكن زينة بنت زينات فعلت شيئا، سوى أنها سبقت البنات في الجري في حصة الألعاب الرياضية كانت سيقان البنات قصيرة سمينة مدكوكة باللحم عاجزات عن الجري، أو أنها حصلت على أعلى الدرجات في حصة الموسيقى، أو في قراءة الشعر.
كانت أصابع البنات قصيرة بضة طرية، تتلوى فوق أصابع البيانو. أصابع بنات العائلات لم يكن لها عظم. تلتوي ألسنتهن حين ينطقن الشعر باللغة العربية، لم تكن اللغة العربية محترمة في بيوت العائلات الكريمة، لا يتكلم اللغة العربية في هذه البيوت الراقية إلا الخادمات والشوفير والطباخ والجنايني والبلانة وقارئة الفنجان، والعشيقات الشغالات من الطبقات الدنيا أو المومسات، لزوم اللذة السرية للذكور من العائلات الكريمة، ذات الأصل العريق.
مجيدة الخرتيتي تبكي في الليل تسأل الرب: لماذا خلقتني بهذه الأصابع القصيرة بهاتين المقلتين الصغيرتين الخاليتين من البريق؟ لماذا أعطيت الموهبة لبنت الزنى؟ هل تفضل يا رب بنات الزنى على بنات العائلات الكريمة؟
ناپیژندل شوی مخ