كانت بدرية تمشي بخطوة ثابتة أكثر ثباتا من بدور. لم تكن ترتدي كعبا عاليا، ربما لأن قامتها كانت أطول من بدور أو أكثر نحافة ورشاقة، وأكثر شجاعة في خرق القوانين والإقدام على الموت دون أن يطرف لها جفن.
ذلك اليوم اتخذت بدرية قرارها أن تتحرر من العبء الثقيل داخل جسدها، أن تتحرر من الذكرى الأليمة في خلايا عقلها، ارتدت ملابسها وخرجت. اختارت ثوبا رمادي اللون واسعا لا يكشف عن استدارات جسدها الأنثوي، له كشكشة فوق الصدر تخفي نهديها والجزء الأعلى من بطنها، فوق كتفها علقت حزام حقيبتها الجلدية، داخل الحقيبة كان مظروف يحوي رزمة من الجنيهات، ادخرتها من مصروفها اليومي وما كانت تسرقه من جيوب أمها وأبيها.
كانت تشعر بلذة غامضة حين تسرق بعض الجنيهات من أبيها وأمها، فلا يكتشفان السرقة، ولا سيما أبوها، كانت محفظته منتفخة دائما بالأوراق المالية، يخفيها بعيدا عن العيون في جيوب بذلاته الثمينة داخل الدولاب في غرفة النوم. كان يملك الكثير من البذلات من الصوف الإنكليزي الثمين للشتاء ومن الأقمشة الحريرية للصيف، لكل بذلة جيوب داخلية وخارجية.
يتلفت حوله قبل أن يدس المحفظة في أحد الجيوب، يخشى أن تلحظه عين زوجته أو أحد الخدم أو دادا، التي كانت تنظف الغرفة أحيانا، أو تضع الملابس المغسولة المكوية داخل الأدراج، أو تقدم له فنجان القهوة. لم يكن يلحظ عين ابنته بدرية؛ ربما لأنها كانت ترمقه من شق صغير في الباب الموارب، أو ربما لأنها ليست ابنته الحقيقية من لحم ودم، بل شخصية في رواية كتبتها ابنته ثم سرقت منها، ولأن ابنته كانت تتحلى بالأمانة والأخلاق الطاهرة مثل أي فتاة عذراء في مثل عمرها، لا يمكن أن تسرق من أبيها.
كانت بدرية تمشي في الشارع الأسفلت، كعب حذائها العريض المربع يدق الأرض بانتظام. فوق جدار المبنى ساعة تشير إلى الثالثة إلا ربعا، موعدها في الثالثة تماما، لم يبق من الزمن إلا خمس عشرة دقيقة وتنتقل إلى عالم آخر، قشعريرة برد تسري في جسدها، الشمس قوية بعد أن انتهى الشتاء، رجل عجوز يمشي أمامها يلهث، يمسح عرقه بمنديل أبيض كبير، يتمتم آيات من القرآن أو ربما يكلم نفسه، امرأة ترتدي طرحة سوداء تجر خلفها طفلة تنشج ببكاء مكتوم.
أمام باب العمارة العالية وقفت تلتقط أنفاسها، رفعت عينيها إلى اليافطة المعلقة في الدور التاسع، أخرجت من حقيبتها منديلا من الورق الخفيف مسحت وجهها وعينيها، ساقها بواب أسود البشرة، ضخم الجسم إلى باب المصعد رمقها بنظرة صفراء، مدت له يدها بجنيه، لمعت أسنانه البيضاء الكبيرة في ابتسامة عريضة تقلصت في غمضة عين.
كان باب الشقة مفتوحا مثل كل الأبواب المفتوحة تتصيد الضحايا، عيادات الأطباء، مكاتب الحانوتية، صالونات الحلاقين، محلات الجزارين، السماسرة، المحامون، وكلاء الشركات الأجنبية، والمهن الحرة، ومكاتب الأحزاب السياسية والصحف، ورجال الأعمال والجمعيات الخيرية التي أصبحت تسمى الهيئات غير الحكومية، والمدافعين عن حقوق الإنسان، وحقوق النساء.
فوق الباب رقعة لامعة من النحاس مكتوب عليها الاسم واللقب، مواعيد الزيارات والأسعار. في المدخل مكتب الاستقبال، رجل يرتدي مريلة بيضاء جالس وراء مكتب صغير، فوقه دفتر ضخم دون اسمها، أخذ منها رزمة الجنيهات وأعطاها رقما، راحت تبحلق فيه وقتا طويلا وهي واقفة ثم جلست في غرفة الانتظار، أخذت تتأمل الوجوه. كلهن نساء، وجوههن شاحبة مخطوفة ، جالسات صامتات مطرقات، رءوسهن مثقلة بالعبء بالخوف من الغيب، إحداهن تلف رأسها بطرحة بيضاء، تمتم بعض الآيات المقدسات، فتاة شابة شعرها أسود طويل ترتدي الميني جيب، وجهها تغطيه مساحيق وألوان، رموشها الغزيرة تبربش في حركة دائرية، رمقتها بنظرة سريعة ثم حركت رأسها إلى الناحية الأخرى.
دقت الساعة الرابعة، قادها التمورجي إلى باب صغير، في نهاية سرداب طويل، حيث يقبع الموت متنكرا داخل معطف أبيض.
منذ طفولتها كرهت بدرية الأطباء، لم تكن تبكي مثل بدور حين يغرس الطبيب الإبرة في جسدها، تكز على أسنانها وتكتم الألم.
ناپیژندل شوی مخ