وبعد دقائق ظهر رجل من المحطة وأتى نحوه، كان يرتدي حلة المستشفى المعقمة ذات اللون الأخضر، ويضع سماعة طبية حول رقبته، كان خفيف الحركة، ذا وجه حنون، ومشية تشبه مشية البط، كانت الراحة التي أحس بها زيتون في الثواني التي رآه يقترب فيها لا حدود لها.
وهتف زيتون: «دكتور!»
ولكن الرجل لم يتوقف قط، بل قال وهو يواصل المسير: «لست طبيبا!» •••
وكان الإفطار يتكون أيضا من وجبات جاهزة، من العجة التي وضعت فيها شرائح لحم الخنزير، ومن جديد أعطى زيتون وناصر لحم الخنزير لتود وروني. ولكن الإفطار تضمن شيئا جديدا اليوم، زجاجة صغيرة من الصلصة الحريفة، فخطرت لزيتون فكرة؛ إذ تناول الزجاجة الصغيرة، وقرعها على الأرض فانكسرت، وتحولت إلى شظايا ونصال، فالتقط أحد نصل فيها وقطع به قطعا في الجزء المتورم من قدمه، مخرجا قدرا من السوائل يزيد عما تخيله، كان شفافا في البداية ثم تحول إلى اللون الأبيض فالأحمر، وظل يحفر حتى وصل إلى الشظية الدكناء الكامنة تحت الجلد، وبعد أن أغرق الدم قدمه، أخرجها، كانت كسرة معدنية رقيقة في حجم خلة الأسنان.
ثم ربط قدمه بجميع المناديل الورقية الفائضة في القفص، فانقطع الألم فورا.
وعلى امتداد النهار تكرر الرش برذاذ الفلفل، سواء كان ذلك للأفراد أو دون تمييز، وفي أواخر وقت العصر أحضر أحد الحراس بندقية ذات ماسورة ضخمة، وأطلق منها مقذوفا على أحد الأقفاص، وظن زيتون أن رجلا قد قتل ولكنه أدرك أن البندقية لم تكن تطلق الرصاص، بل أكياس حبات الفول الجاف، وجعل الرجل يتلوى على الأرض ألما قابضا على بطنه، ومنذ تلك اللحظة أصبحت هذه البندقية السلاح المفضل المستخدم في إخضاع السجناء، وكان الحراس يستخدمونها جنبا إلى جنب مع رذاذ الفلفل، ويطلقونها على الرجال والنساء في الأقفاص.
واستمر جيري في إجراء محادثاته مع زيتون وناصر، كان من الواضح أنه غير مهتم بتود وروني، وطرح على زيتون أسئلة كثرا عن تراثه، وعن سوريا، وعن حياته العملية، وعن مرات عودته لزيارة وطنه، وطرح الأسئلة نفسها على ناصر، وكان دائما ما يغلفها بغلالة من الود الظاهر وبراءة حب الاستطلاع. وكان ناصر متحفظا بطبعه، فتقوقع في ذاته بصورة شبه كاملة، وحاول زيتون أن يتفادى الأسئلة مدعيا الإرهاق، وتحول وجود جيري إلى مصدر للقلق المتزايد يوما بعد يوم.
من كان جيري؟ ما سبب وجوده في هذا القفص وفي المجمع نحو مائة سجين آخر؟ وقد أصر تود في وقت لاحق على أنه كان جاسوسا، مخبرا متنكرا، وأن الهدف من وجوده كان جمع المعلومات عن الرجلين السوريين في القفص. وقال تود إنه متنكر بطبيعة الحال، وقال زيتون في نفسه: لو كان ذلك صحيحا، فإنه كان موظفا عموميا متفانيا إلى أبعد حد في عمله. كان يتناول طعامه في الهواء الطلق في القفص، وعندما يحل الليل ويبرد الهواء ينام حيث ينام رفقاء زيتون في القفص، من دون بطاطين أو وسائد، على الأرض القذرة.
وفي تلك الليلة، عندما حان دور زيتون في الرقاد على الهيكل الفولاذي في القفص، حاول أن يستلقي بأسلوب مريح فلم يستطع. كان يشعر في جانبه بألم جديد، نابع من منطقة الكلية اليمنى، كان الألم حادا حين حاول الاستلقاء على السور الحديدي، لكنه خف قليلا عندما وقف دون أن يختفي تماما، كان يمثل مصدرا جديدا للقلق، وسببا آخر لعدم راحته في هذه الليلة.
الجمعة 9 من سبتمبر
ناپیژندل شوی مخ