فصاح القس بولس به: ياو ياو! سيدتك بنتي، بنتي، ألا يؤذن لوالد أن يرى ابنته؟ - لو جاء السلطان اليوم ما أذنت له بالدخول.
فطأطأ القس بولس رأسه وانثنى راجعا، فجلس تحت نخلة في البستان ينظر إلى البيت والنفس منه حزينة حتى الموت.
وكانت لطيفة ربيبة فريد قد سمعت ما دار من الحديث بين الخادم والقسيس فجاءت مسرعة تخبر سيدتها، فاستشاطت مريم غيظا وراحت تنادي أباها فالتقت بالخادم في الباب. - ومن أعطاك هذه الأوامر؟ - الخواجا عارف يا ستي. - داهتك داهية أنت والخواجا عارف.
وخرجت إلى البستان تنادي - أبي أبي! فسارع القسيس إليها مجيبا وجلس وإياها على مجلس في الجنينة تحت النخيل. - أزورك هنا يا بنتي، لا أدخل البيت. - بلى، بلى، دخيلك أبي. - وغدا أزورك يا بنتي، أنا مقيم في النزل، وسأظل في البلد إلى أن تشفي، وسأزورك هنا في البستان كل يوم. - ولكن الطبيب أشار بالسفر إلى لبنان. - فأسافر وإياك كما وعدت.
وفي تلك الآونة جاء عارف عائدا من مكتبه فسلم على القس بولس ولعنه في قلبه، فقالت مريم مخاطبة زوجها: أفلا تريد يا عارف أن يزورني أبي؟! أمرك يا سيدي مطاع، أمرك مطاع.
ثم ودعت أباها قائلة: سأزورك أنا في النزل يا أبي، ولا أكلفك إلى ما فيه إهانتك.
ودخلت وزوجها إلى البيت تصر بأسنانها وتحاول كظم غيظها، فلم تنم تلك الليلة إلا قليلا.
وفي اليوم الثاني اشتدت وطأة الحمى عليها، واستمرت تصعد الحرارة حتى درجة الخطر، فبعثت تستدعي أباها إليها فجاء مسرعا، دخل الغرفة فوجد عارفا جالسا إلى جانب السرير منكسا رأسه، وسمع مريم تهذي فهتفت إذ رأته: أبي، أبي، أقم عندي، قربي، لا تفارقني، سأموت، سأموت، ولكني أموت سعيدة وأنت قربي، إلى جانبي، لقد انشرح صدري الآن، قد زالت آلامي، شفيت، شفيت، وغدا نسافر إلى لبنان، غدا صباحا، أنا وإياك وفريد، نقيم في ظلال الصنوبر، سأرقص في ظلال الصنوبر، أتلو عليك قصيدة الابنة الحزينة البائسة ، الله ما أجمل أنغام الكمنجة، الكمنجة وحدها، وحدها، أنغامها تذيب قلبي، تطرب نفسي، سكرة الحياة ما أحبها، سكرة الموت ما أبدعها! أيها الشاعر نفسي الليلة حزينة، حزينة حتى الموت، سأموت وأسافر إلى باريس، إلى باريس، الله ما أجملك يا باريس، تموج شوارعك بالناس، بالأزياء، بالأبهة، بالجمال، بالفنون، ضجيج شوارعك وقهاويك مثل الأغاريد في أذني، العربات والسيارات والجماهير والبوليس في وسط الشارع رداؤه على كتفه وصولجانه الأبيض في يده واقف، ما ألطف بوليسك يا باريس وما أعظم سطوته! وأنوارك والناس في بهائها رائحين جائين كل إلى جنبت من يحبه ويهواه. وها قد جاء المعاز بقطيعه
1
ما ألطف قصب المعاز وطنين أجراس القطيع، جاء المعاز: حليب، حليب، هاتي يا بنت دلوك، قصب الراعي في أسواق باريس، اسمعوا قصب الراعي، وغدا نسمعه في لبنان، غدا، غدا أموت، آه، أواه، غدا أموت ولا أسمع صوت أجراس القطيع، عارف أستغفرك هات يدك، سامحني، أنا مائتة، أنا مائتة، خذ يد أبي صافحه واستغفره، استغفره يا عارف، لله ما أحلى الصفاء وما أجمل القلوب الصافية اسمعوا صوت القصب، اسمعوا صوت أجراس القطيع، سأرقص لكم على أنغامها، سأرقص لكم رقصة الابنة الحزينة البائسة.
ناپیژندل شوی مخ