فهزت مريم كتفها. - وهل علمت سيدك قام زيد؟ وضرب عمرو زيدا؟
فابتسمت ابتسامة الضجر. - وهل تأذن لك سيدتك بالخروج إلى المدينة؟ - يوما واحدا في الأسبوع؛ يوم الجمعة. - وهل خرجت تتفرجين على باريس. - آذنتني مدام أن أرافق الخادمة شرلت إلى البلد، فأخذتني إلى قصر فخم يدخل إليه الناس واحدا واحدا مثل المعزى بين قضيبين من الحديد، والبوليس مثل الراعي يراقبهم ويعدهم، ولكن القصر من داخل جميل غريب، رأيته غاصا بالناس وله مصطبة يحجبها ستار من المحمل كبير، أمامه أناس يصوتون بآلات من النحاس كبيرة ويضربون على الدف والطبل، وقد انتصب بينهم رجل بيده قضيب يرقص ويهول به كالمجنون، ثم رفع الستار عن بنات يرقصن ويغنين ويلعبن والرجال، لم أفهم من لفظهم ورطاناتهم شيئا، ولكن رقص البنات أعجبني، الله ما أبرعهن وما أليقهن! تقف الواحدة منهن على رءوس أصابعها هكذا (وخلعت مريم حذاءها وحاولت التقليد) فتنتقل كالعصفور وتدور مسرعة كالبلبل دون أن تقع.
فضحك نجيب لهذا الوصف وسألها إذا كانت تحب أن ترافقه يوم الجمعة القادم ليفرجها على المدينة. - مؤكد أكون ممنونتك.
فاستأذن مدام لامار بذلك فأذنت، وجاء في اليوم المضروب يبر بوعده، فأخذ مريم في السيارة إلى الحرج وتناولا طعام الظهر في قهوة هناك، وعاد بها إلى المدينة بعد الظهر ففرجها على قصر اللوفر وقبر نابوليون، ثم تناولا العشاء في قهوة في البوليفار الكبير وأخذها بعدئذ إلى تياترو تشاهد الرقص الذي أعجبت به، ولما ودعها عند الباب وعدها بيوم آخر مثل هذا بل أحسن منه الأسبوع القادم، فباتت مريم تلك الليلة فرحة مدهوشة، كأن ما شاهدته من غرائب المدينة وعجائب آثارها ملأ فؤادها فصرفه عن رفيقها، بل مضيفها، بل عشيقها، ولم يخطر نجيب في بالها ذاك اليوم إلا في صفة الدليل.
ولما جاء المرة الثانية قالت له مدام لامار: يجب علي أن أشكرك عن مريم، فقد أثنت عليك ثناء كبيرا ونوهت بكرمك وشرف أخلاقك. - هذا تعطف منك جميل، مدام. - واليوم إلى أين؟ - إلى فرساي، وإذا عدنا باكرا نزور الكسنبور. - حسن، حسن، تحذري يا مريم عند اجتيازك الشوارع، وعسى أن تعجبك قصورنا وآثار بلادنا، وا أسفاه! أين هي من آثار بلادكم المقدسة؟
خرت السيارة وعجت وراحت تلتهم الطريق التهاما، وعمد التلغراف إلى جانبيها تعلو وتهبط كأنها صفوف من رواقص الجن أو أشباح من عالم الخيال، والأشجار تهوي فوق حقول خضراء تمر مسرعة كصور السنماتوغراف، والبيوت هنا وهناك تبدو كالغيوم البيضاء والسوداء، ثم تدنو كالجبال فتولي كالخيال، ومريم، وقد اعتراها الخوف، جامدة ساكتة كأنها تقبض على قلبها بيدها، ونجيب يحدثها هازئا ضاحكا، وهي لا تكترث.
ولما وصلا إلى فرساي دارا في القصر ساعة يتفرجان على الصور فيه والتحف والآثار، ثم تناولا الغداء في قهوة هناك فخمة، وخرجا يتنزهان في جنينة القصر المنقطعة النظير، وبينما هما جالسان أمام نوفرة من النوافر المتعددة هناك، أعطى نجيب مريم علبة خضراء صغيرة، ففتحتها فإذا فيها سلسلة من الذهب ذات أيقونة في شكل ورقة الحندقوق فيها ثلاثة حجارة من الماس. - يا ربي! لا أقبلها منك هذه ثمينة جدا ولا تليق بي. - ما يليق بالإمبراطورة أوجيني يليق بك، خرج نابوليون الثالث صباح ذات يوم من هذا القصر يتنزه وخطيبته الأميرة أوجيني، فرأت ثلاث نقط من الندى على ورقة من الحندقوق فأعجبت بها جدا، فبعث الإمبراطور إلى صائغ القصر في باريس يأمره بصنع أيقونة في هذا الشكل، فأهداها إياها. - القصة جميلة، ولكنها لا تناسب، فلا أنت نابوليون، ولا أنا أوجيني. - الحب يا مريم يتوج المحبين ويجعلهم ملوكا.
فوقفت مريم إذ ذاك وأحنت رأسها أمام نجيب تقول: أحييك يا صاحب الجلالة، مريم معلمة المسيو فرنسوى لامار تحييك.
ثم قالت وقد غيرت لهجتها: لا، لا، إذا كنت تقصد أن تخطبني بهذه الهدية فأنت واهم، لا يا أفندي لا، فقد قلت لي: إن الزواج عبودية. - عند الإسلام يا مريم لا عندنا. - إنما المرأة مرأة، والرجل رجل، إن كان عند الإسلام، أو عند النصارى، أو عند اليهود، أقبل هديتك وأقبلها، ولكن لا تحرمني نعيما أنا فيه، خلني عند مدام لامار أعلم سيدي المسيو فرنسوى اللغة العربية - وجعلت تقلده - واهد، اتنين، أربا، كمسه، سبا، تامانيه، يخزي العين ما رأيت أذكى منه، بعد شهرين يصير أستاذا عربيا، قم بنا نرجع إلى البلد، فقد اشتقت إلى سواد عينيه. - عيناه زرقاوان. - لا تؤاخذني، ولكنهما يظهران أحيانا كلون البحر إذا هاج أو كلون ثياب العرب إذا «باخت».
وكأنها انتبهت إذ ذاك إلى شيء ففتحت كيسا من الحرير تحمله بيدها وجعلت تفتش فيه. - ما لك؟ - نسيت لائحة الطعام، ولا أرجع إلى البلاد بلاها، فعرج نجيب على القهوة وجاءها بها، فقلبت فيها عينيها وتنهدت. - أكثر من مائة لون، يا ربي! ما أجشع هؤلاء الإفرنج، ومن يقدر أن يحفظ أسماءها كلها، سأبذل جهدي، فلا أطيق الخادم آمرا ناصحا يعلمني ما ينبغي أن آكل وأشرب، عيب ، عيب، إذا عزمتني في الأسبوع القادم أعدك أني أطلب الغداء دون أن أستشيرك أو ألجأ إلى الخادم وأقسم أن اختياري يعجبك، امش.
ناپیژندل شوی مخ