وعلى هذه الحال قضت وإياه شهري حبلها الأخيرين، وفي ذات يوم عند غروب الشمس بينا كان يصلي على شاطئ البحيرة جاءت هيلانة إليه تقول: معلمتي متألمة جدا، فبعثها إلى البلد تستدعي قابلة: أسرعي، خذي العربة عند الحمامات، وارجعي وإياها حالا. فامتثلت هيلانة أمره، ولما وصلت إلى طبريا ذهبت توا إلى أمها. - الليلة، الليلة. - طيب، وهل استدعيتم القابلة. - أنا ذاهبة الآن إليها. - حسن، عند القبور بعد ساعة أو ساعتين ولا تنسي ما قلت لك، تشجعي وتيقظي وكوني رشقة وشاطرة.
وفي تلك الليلة ولدت مريم بعد طويل العذاب وشديد الألم طفلا ذكرا، وكان القس جبرائيل ينتظر على شاطئ البحيرة خلاصها، فجاءت هيلانة تبشره بذلك، ثم سارعت إلى جهة القبور فكلمت شخصا واقفا هناك تقول: بعد ساعتين، أجيئك بعد ساعتين.
وفي الساعة الثانية بعد نصف الليل، وقد كانت القابلة أنجزت عملها ونامت، وكانت مريم والطفل والقسيس نياما كذلك، نهضت هيلانة تتسلل إلى فراش القابلة فأخذت الطفل من جانبها فاستفاق باكيا، فاستفاقت لبكائه القابلة، فتظاهرت هيلانة بأنها تربته وتطايبه لينام، ثم عادت إلى فراشها تترقب الفرصة، ونهضت بعد نصف ساعة فحملت الطفل النائم وأسرعت به إلى الشخص الذي كان ينتظرها عند القبور، وعادت إلى فراشها فنامت ناعمة البال نومة البررة الأطهار.
ونهض القس جبرائيل باكرا صباح ذاك اليوم فدخل على مريم ليهنئها ويشاهد ولدها، وكانت النساء الثلاث لم يزلن نائمات فأيقظ القابلة وسألها عن الطفل، فنظرت حولها يمينا ويسارا ثم نهضت تصفق كفا على كف وتصيح، فأسكتها القسيس وأيقظ الخادمة هيلانة وما كاد يتم سؤاله حتى أخذت تبكي وتقسم بالله وبالأنبياء، فاستدعا الاثنتين إلى الخارج؛ خوف أن يوقظ لغطهما مريم فتعلم بالحادثة فيجهز عليها. - لما عدت أنا إلى البيت يا هيلانة كان الباب مفتوحا وكنت خارجا. - نعم سيدي. - وهل أقفلت الباب عند رجوعك؟ - لا، تركته مفتوحا حسب العادة، والله يبليني ويضربني بالسبع ضربات إذا كنت ... فأومأ بيده أن اسكتي، وأوعز إليها وإلى القابلة أن يقولا لمريم: إن ولدها عند المرضعة في البلد ترضعه إلى أن تتعافى.
وراح يسرع إلى الحمامات مشتت الفكر مضطرب البال.
الفصل العاشر
ليس في العناصر الطبيعية وقواها ما يستمر أبدا ثائرا، أو يستقر أبدا هادئا، وليس في قوى الإنسان ومقاصده ما يخالف النواميس الطبيعية، تطمو السواقي والأنهار، ثم ترسب، ثم تغور، ثم تجف، ثم يبعث الله فيها ماء الحياة؛ لتعيد على مسمعه نشيد التراوح الأبدي بين الحب واليأس، والثبات والتردد، والخيبة والأمل، وكذلك في الأنفس البشرية، وفي السامية منها خصيصا، تملؤها المقاصد النبيلة نورا، تكللها المساعي الشريفة آمالا، يعلو بها الإيمان والإحسان إلى ذروة الإلهيات فتنور هنالك سوسنا ذهبيا، ثم يبعث الله من لدنه رسولا لا يفرق بين فصول السنة ومراحل السالكين، ولا بين سوسن الربى وزنابق الغور، ولا بين سواقي الجبال والأنفس البشرية.
ونفس القس جبرائيل الفائضة حبا وإحسانا أخذت بعد أن سرق الطفل أن ترسب وتغور، فلقد وصل في جهاده إلى محجة تعجز النفس أن تتجاوزها مهما تعاظم عزمها دون أن يعترضها عارض يوقفها قليلا فتستريح ثم تستأنف السير والسعي ناشطة مطمئنة، وأما الحادث المحزن هذا فبدل أن يوقف القسيس أقعده، وأسكنه، وزعزع من العزم والإيمان.
لقد فكر لأول وهلة أن يبحث عن الطفل عله يظفر به فيعيده إلى أمه، وراح صباح ذاك اليوم ووجهته الحمامات قصد الاستقصاء، ثم انثنى عن عزمه وأحجم آسفا يائسا، وتاه في الحقول والجبال معظم النهار يساجل نفسه في الأمر وهو يحس منها وهنا واضطرابا.
من يوم تولى شأن مريم وأخذ على عاتقه أمر تربيتها لم يهدأ له بال، ولم تصف له حال من الأحوال، خلصها من الدير فوقعت في أشراك أشر من أشراكه وأخبث، فجاهد في سبيلها دون أن يحفل بوشايات الأقارب والإخوان وبتنديد النساء والرهبان، ثم خلصها من السجن وفادى بمنصبه وبنفوذه من أجلها، بل اقتبل الفضيحة والعار وخرج من الدير قبل أن ينتصر على خصومه فيه؛ خرج منه مدحورا مذموما وجاء بالفتاة يعيش وإياها على شاطئ البحيرة متنكرين، جاء يستر عارها ويعينها طاقته على مشقة قدسها الله فيداوي نفسها ونفسه الكليمتين ويكفر نوعا عن ذنب ابن أخيه.
ناپیژندل شوی مخ