المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمّد وآله وصحبه
سبحان الله المتعالي عن الأشباه والأمثال، والحمد لله ذي الفضل العظيم والكرم المنثال، ولا إله إلا الله المتوحد بالكبرياء والأثال، والله اكبر أن يتطاول إلى سميّ جلاله خيالٌ أو مثال. ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم، نحمده على ما أسدى من جزيل الرغائب، وأجدى من جميل المواهب، وسنّى من جليل المآرب، وأسنى من كميل المراتب، وأولى من الجميل العميم. ونشكره على أفئدة بنور الأيمان هداها، والسنة أطال في شأو البيان مداها، وبصائر أسام سرحها إلى مراتع العبر وحداها، وانتجع بها مواقع غيث الفكر وجداها؛ حتى أصبحت نشوى من كؤوس العرفان تهيم، وتجلوا بلوامع التبيان كل ليل بهيم، ونصلّي على نبيه محمّد المختار المقتعد حقا ذروة الكمال والفخار، والمرتدي برداء الجلال والإكبار، والمبتعث من أطيب عنصر وأكرم نجار، في حسب حسيب وشرف قديم. الذي أنار بطلعته الغراء علم المهتدين، وسمك بعزته القعساء منار الدين، وثل بشرعته البضاء عروش الجاحدين والحائدين، واستأصل بشوكته الشوكاء شأفة العادين، وجعلة صفوة الصفوة، ونخبة النخبة، وسرَّ السر، وخلاصة الخلاصة، ومصاصة المصاصة، ولباب اللباب، وخيار الخيار، وصميم الصميم. صلى الله عيه صلاة تلوح في أفق مكانته العلياء قمرا، وتفوح على طلعته الغراء عنبرا، وتنهمل في جناب مجاته الفيحاء كوثرًا، وتخضل في روضتة جماله الغناء زهرا، ما هب نسيم، وذهب ذو رسيم. وعلى اله الأماثل، وأعلام الدين القويم، والصراط المستقيم، ما بدا على وجنات الورد تخجيل، من رشفات النسيم البليل، واصفر روعة وجه الأصيل، من
1 / 11
لحظات طرف الليل الكحيل، وأسفر الصباح عن ثغر بسيم، ومنظر وسيم.
أما بعد، فان العلم انفس علق يقتنى، وأحلى ثمر يجتنى؛ وأعدل حجة، وأقوم حجة، وأحصن جنة، وأضوء بدر في دجنة؛ وأربح متجر مثابر عليه، وأنجع مرعى ينتجع إليه؛ وأرجى بارق يشتام، وأفضل جناب يعتام؛ وأنور نور يستضاء به في الظلومات، وامنع وزر يعتصم به في الأزمات؛ وأوثق عروة يستمسك بها ذوو البصائر، وأعظم عدة تعقد عليها الخناصير؛ وأقوى مطية تركب، وأتم سلاح يتنكب؛ وأطيب نسمة تستنشق، وأجمل محبوب يعلق؛ وأبهى زينة يتحلى بها المتحلون، وارفع منصة يتجلى عليها المتجلون.
فإن العلم غذاء العقل، وبه يعرف الحكم العدل؛ وإنّ الخصيصى التي بها شرف الإنسان إنّما هي العلم؛ فان المرء لو بلغ في كمال الجسم أطوريه، لا يكون أنسانا إلاّ بأصغريه:
لولا العقول لكان أدنى ضيعة ... أدنى إلى شرف من الإنسان
وما امتاز اللسن الذكي عن العييى إلاّ برجاحة الجنان، وفصاحة اللسان؛ فان الخليق للأفكار عند افتراعها المعاني الأبكار؛ والجدير للألسنة عند اقتطافها أزاهير البيان، واهتصارها أفانين التبيان، أن يتميز فيها الفائق من المائق، والسابق من السائق؛ وعند السياق في ميدانها الوثيم، أن يتجلى المجلى عن اللطيم، وعند مزاولة الغرض المعضل، أن يعرف المقرطس من المخضل. وعند انتياش مضارب الأفهام، أن يمتاز الصارم عن الكهام؛ وعند اقتباس حكمة تستشعر، أن يشرف المورى عن الأدعر؛ وعند اقتسام مزايا الفضل الفسيح، أن يفوز المعلى دون السفيح؛ وعند استفتاح المغالق، وتغشي المضائق، أن يعلم المجحم من المحجم، والهصور من
1 / 12
الحصور. فلا جرم كان من اجل العلوم وأفخرها، وأحقها بالاعتناء به وأجدرها، علم الأدب، والتضلع من كلام العرب، إذ به تنحل عقله اللسان، وتزاح روعة الجنان. وهو لسان نبينا نخبة العالم، وصفوة ولد آدم، وكتابه الذي أخرس به مصاقع البيان، من بلغاء عدنان وقحطان، حتى عدلوا عن المجادلة إلى الطعان، وعن المعارضة إلى الادغان. صلى الله وسلم عليه وعلى آله ما لمع بارق، وطلع شارق، فهو لعمري أجل الكلام، وأشرف ما اعتورته الألسنة والأفهام، وأبها بدر يستجلى وعروس، وأسنى أثر يستبقى في ميادين الطروس. لا سيما علم أمثالها التي هي زمام كل معنى، ومناط لك مبنى، ومنار لك مرمى، ومصباح كل ظلما. وبها يرتاض كل جموح، ويصبح المنبهم ذا وضوح، وبها يعود الغائب مشهودا بل المعدوم موجودا.
وكان الأقدمون بهذا الفن معتنين، ولنوادره ملقنين، ومدونين، يردون مواردها، ويقتنصون شواردها؛ ويقتطفون أزهارها النضرة، ويتنسمون نسماتها العطرة؛ ويرتشفون ثغورها، ويقتبسون نورها؛ ويشيمون لمحات تلك البوارق، ويشمون بدررها صفحات المهارق. فلما طال العهد بأزمان العرب، وقضى من تناسي أيامها كل أرب، تغلبت العجمة على الألسنة والطباع، فخلت من قطينها هاتيك الرباع، وأصبحت حديثا مهجورا، كأن لم تكن شيئا مذكورا، وعادت أيامها محض أوهام، فكأنها وكأنهم أحلام، وتقلص ضافي بردها، وتكدر صافي وردها، وذهبت المعارف والعوارف، وتقلص ظلها الوارف؛ وأمست رباع الأدب قفرا، وراحت الخواطر منه صفرا.
وكانت نفس تشوقني إلى هذا الفن ومآثره، وتنازعني إلى تتبع داثره. فكنت أشتاق أن أرى في هذا موضوعا، وأصادف كتابا مجموعا، مما عني به الأقدمون، واقتفى أثرهم فيه المتأخرون. فلم يسمح بذلك الدهر العقيم، ولم يظفر بشيء منه الجد السقيم. ولما لم أذق من ذلك لملقا، ولم يزدد
1 / 13
القلب إلاّ اشتياقا، طفقت أجول في عرصات كتب الأدب، وكل ما له ماسة بكلام العرب. ولم أزل أتتبع ظلالها، واشتف بلالها، وأرعاها قننًا ووهادا، وأنتجعها فتوحا وعهادا؛ وأحتلبها شصائص وشكارى، وأعتنقها عونا وأبكارا، حتى التقطت من ثمين جوهرها، واقتطفت من يغيع زهرها، ما يشفي العليل، وينقع الغليل، ويميس ميس الغصن المروح، ويسري في الجسوم مسرى الروح. فلما امتلأ بحمد الله من ذلك الوطاب، وعاد البلح إلى الأرطاب، هممت أن أجمع ما علق في هذا الوقت بخاطري، مما ترقى إليه نظري وناظري، في كن يؤويه، ومجموع يحويه، حذارا من النسيان، عند تطاول الزمان. فألفت هذا المجموع في الأمثال، وأود عته كل دمية وتمثال. ثم رأيت أن أضم إليها من الحكم جملة مما انتهيت إليه، ووقفت عند تطوافي عليه، وتتميما للفائدة، وتكميلا للعائدة، مع قرب ما بين النوعين جدا، كما ستقف عليه عند التعرض لهما فصلا واحدا. فجاء بحمد الله كتابا ممتعا، للآذان الصم مسمعا:
جمهت به والجفن مغض على القذى ... وبالخد البلبال أصبح ذا خلدِ
محاسن تزوي بالنسيم إذا سري ... فحيى محيا السوسن الغض والوردِ
وتزري بهاء بالمطير من الربى ... وبالعذب للصادي وبالكاعب الرادِ
لآلئ ما غواصها بمصادف ... لها صدفا في ملتفى أبحر الهندِ
ولا حليت يوما بها جيد غاده ... ولا فصلت بالعسجد الصرد في عقدِ
فرائد ما منهن إلاّ جريدة ... أعز على المرتاد في الأبلق الفردِ
1 / 14
ومع هذا فإني اعتذر لذوي النفوس الوقادة، والصيارفة النقادة، من تقصير فيه، وخلل لم يتفق تلافيه. وكيف لا يعذر ذو بال متقسم، ووبال متكسم، وشخص لا يبين لمتوسم، مكلوم بفاغر من الخطوب متبسم، يرمق العيش برضا، ويقطع بسيط الحيرة طولا وعرضا، لا يترجى مددا، إلاّ كمدا. ولا يغتيق إلاّ عبرة، ولا يعتلف إلاّ زفرة، ولا يعد إلاّ ذنوب الدهر، ولا يعد إلاّ ذنوب نهر، في فتن تحول بين المرء وقلبه، وتذهل غيلان عن حبه، ودهر حال دون القريض، بالشجى والجريض، ورد الأوج إلى الحضيض، ولم يجعل بدا من مصادقة البغيض، وأعاد الصدور أعقابا، والنواصي أذنابا، وكدر كل صفو، وأورث كل شجو، وخلف من بينه كجلد الأجرب، وزباني العقرب، لا يتجرعون إلاّ علاقم، ولا يلتمسون إلاّ أراقم؛ أما أذنابها فرعراع، وشر شعاع، وفتنه وردها قعاع، وظلمة ليس بها شعاع؛ وأما ذراها فلا تعدو رضيعا تبكي المخالص الجرب لمصابه، وتشكو الصفر والبيض يد الضياع لصفر وطابه، وخليعا يذهب دهره ما بين الرخ والرخة، والفخ والفخة، وكلا النوعين قد أنزلهما أسود العين طرفه، وتضمنتهما القمران المشتبهان في بيت طرفة.
وكان الأدب وسائر العلوم قديما إنّما يحيي غراسها، ويسني مراسها، ويطيب أنفاسها، ويحبب نفاسها الفضل، الهام والعدل الحام. فأما اليوم فلا ندى يستثمر الإبداع، ولا انتصاف يتلافى الانصداع. فأي علم يترجى، ممن زوال الروع عنده منتهى الرجا؟ قنوع من الغنيمة بالإياب، ومن الايراب، بنفاضة الجراب، ومن الشراب، بلمحة السراب. وكيف يمكن لمثلي أن يجمع بين كلمتين، فضلا عن فصلين؟ لكن لمّا لم يكن التجرع عند حلول الأقدار، من شيم الأحرار، قبضت على أحر من الجمر،
1 / 15
وتجلد على ما بي من ضمر، وتثنيت الضلوع على أذاها، وأغيضت الجفون عل قذاها. فجمعت هذه الأحرف على حين لم يبق من العلم إلاّ رسمه، ومن التحقيق إلاّ اسمه، من غير كبير عدة أعتمد عليها وأرجع عند المعوصات إليها، ولا وجود مصنف في هذا الفن أهتدي بمناره، وأستضيء بضوء نهاره، وإنما أقتدحت الفكر السادر، فاقترحت نوادر، جمعتها من كل أوب، وحدرتها من كل صوب، ولا أكاد مع ذلك أجد مثلا منه متكلما عليه، ومنبها فيه على ما يحتاج إليه؛ وإنّما يذكرها مجردا، فألتقطه مفردا. ثم أتحمل أعباء شرح ألفاظه ومعانيه، وأتكلف من دواوين العرب ومن بعدهم إحضار شواهده ومبانيه. فكنت في ذلك شبه الواضع وإن سبقت، والمخترع وإن نقلت. وأضفت إلى ذلك من نفائس النوادر دررا، ومن نكت الفوائد غررا. وجمعت فيه من شعر الأقدمين والمحدثين عيونا، وقضيت من غريبه ديونا، وما ذكرت شعرا إلاّ اخترته، ولا ألممت بمنزع إلاّ حررته، ولا دفعت إلى مبهم إلاّ أوضحته، ولا افتتحت بابا إلاّ أتممته، مع جملة وافرة من علم اللغة، تكون للمقتصر علية كفاية وبلغة، لولا أنني رمت بذل على تقتير، وإنباضا بلا توتير. فان جاء وفق الغرض، وقضى الحق المفترض، فلله تعالى المنة، ومنه الحول والمنة؛ وإن اتفق خلل، وفرط زلل، فمن نفسي الغبية، وجهالتي الربية، وفطنتي الخامدة، وقريحتي الجامدة. فإنّ مثلي ليس يكون أهلا للتعلم فضلا عن التعليم:
ولكن البلاد إذا اقشعرت ... وصوح نبتها رعي الهشيمُ
ولمّا تم ما أرته بحمد ذي المن والفضل، وبرز من القوة إلى الفعل، سميته زهر الأكم، في الأمثال والحكم. وجعلته سمطين:
1 / 16
السمط الأمل في
الأمثال وما يلتحق بها، وفيه مقدمة، وخاتمة، وأربعة وثلاثين بابا تسعة وعشرون منها في الأمثال العربية وما يلتحق بها على حروف المعجم، الباب الوفي ثلاثين في الأمثال التركيبية، الحادي والثلاثين في الأعيان، الثاني والثلاثين في الأمثال القرآنية، الثالث والثلاثون في الأمثال الحديثية، الرابع والثلاثون في التشبيهات الشعرية.
السمط الثاني في الحكم وما يلتحق بها، وفيه اثنان وثلاثون بابا: تسعة وعشرون في الحكم على حروف المعجم؛ الباب الوفي ثلاثين في حكم مجموعة، والحادي والثلاثون في النوادر، والثاني والثلاثون في الأوليات. فكان مجموع ذلك ستّة وستين بابا. والله أسأل أن يجعله عنده ذخيرة وحسنة، وأن يجعلنا من الذي يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعلنا ممن أدلى بحبل الغرور حتى حان، وسقط العشاء به على سرحان، وأعوذ بوجهه الكريم ممن إذا رأى قبيحا فار بطره، فشمت بالمساوي وأشمت؛ وإذا رأى جميلا ثار حسده، فصمت عن المحاسن وأصمت. وأعوذ به من إطراء المداجن، ومغث المشاجن، وأعوذ به ممن يتعرف الحق بالرجال، أو يحدد فضل الله بالآجال، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو حسبي ونعم الوكيل.
1 / 17
السمط الأول
الأمثال وما يلتحق بها
المقدمة
الكلام في المقدمة وفيه أربعة فصول:
الفصل الأول:
معنى المثل والحكمة
أما الأول وهو المثل بفتحتين يرد على ثلاثة أضرب:
الأول: الشبه، يقال: " هذا مثل ذلك " أي شبهة؛ ويقال أيضًا: " هو مثله بكسر فسكون، ومثيله، كما يقال شبه وشبيه " فإذا قيل: " هو مثيله، وهم أميثالهم بالتصغير " فقد أريد إنّ المشبه حقير، كما أن هذا حقير. ومن هذا قولهم: مسترد لمثيله، أي مثله يطلب ويشرح عليه. ومنه الأمثال من الناس وهو الأفضل، لأن معناه الأشبه بالأفضل والأقرب إلى الخير، وأماثل القوم خيارهم. قال تعالى:) إذ يقول أمثالهم طريقه. ويذهبا بطريقتكم المثلى (أي هي أشبه بالحق والفضيلة، وهي تأنيث أمثل - وتقول: مثلت الشيء بالشيء إذا شبهته به تمثيلا وتمثالا بفتح التاء، كالتسيار والتطوف. وأما التمثال بالكسر فالصورة، جمعها تماثيل. يقال: مثله له صورة له حتى كأنه ينظر إليه. وتمثل تصور. قال تعالى:) فتمثل لها بشرًا سويًا. (وتماثل الشيئان: تشابها. ومثل الشيء: مقداره. وقوامه: مثلت بفلان مثلة، ومثلت به تمثيلا: أي نكلت به وأوقعت به عقوبة، من هذا، لان معناه أنّه جعله مثلا يرتدع به الغير.
الضرب الثاني: الصفة. قال تعالى:) مثل الجنة التي وعد المتقون (أي صفتها ونحو هذا، وهو كثير في القرآن. وقال تعالى:) للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى (أي لهم الصفات الذميمة وله الصفات العلى. ويقال في هذا المعنى أيضًا: مثال.
1 / 19
الضرب الثالث: القول السائر المشبه مضربه بمورده، وعلى هذا الوجه ما ضرب الله تعالى من الأمثال في القرآن. قال تعالى:) وتلك الأمثال نضربها للناس (الآية. وعلى هذا شاع إطلاق اسم المثل إذا أطلق.
وقال الراغب: الذي يقال على وجهين بمعنى المثل، نحو شَبه وشِبه، ونِقض ونَقض، قال بعضهم: وقد يعبر بها عن وصف الشيء، نحو قوله تعالى) مثل الجنة (الآية. والثاني عبارة عن المشابهة لغيره في معنى من معاني، أي معنى كان، وهو اعم والألفاظ الموضوعة للمشابهة. وذلك أن الند يقال فيما شاركه في جوهرية؛ والشكل يقال فيما شاركه في المساحة؛ والشبه يقال فيما يشاركه الكيفية فقط؛ والمساوي يقال فيما يشاركه الكمية فقط. والمثل عام في جميع ذلك. ولهذا إنما أراد الله تعالى نفي التشبيه من كل وجه خصه بالذكر فقال:) ليس كمثله شيء (انتهى. وقد ذكر غيره أن المماثلة هي المساواة من كل وجه، والمشابهة في اكثر الوجوه. والمناظرة هي المساواة من كل في شيء من الوجوه ولو في واحد، فيكون كل واحد من هذه الألفاظ الثلاثة أعم مما قبله. وكل ذلك مخالف لمّا في متون اللغة من تفسير المثل بالشبه، والعكس كما أوردنه قبل، ومخالف الظاهر صنيع البلغاء في باب التشبيه، حيث قسموا أوجه الشبه إلى ما يرجع إلى الشكل، وما يرجع إلى المقدار، وما يرجع إلى الكيفية، وغير ذلك، وسموا كل ذلك تشبيها وهو من الشبه، والأمر في هذا قريب. إذا عرفت هذا فأعلم إنّ مقصودنا من المثل بالذات في هذا الكتاب هو ثالث الأقسام السابقة وهو المثل السائر.
وللناس في تعريفه عبارات. فقيل ما مر من إنّه القول السائر المشبه مضربه بمورده؛ وقيل هو قول مركب مشهور شبه مضربه بمورده، وهما بمعنى. فقيد السائر والمشهور يخرج ما لم يشتهر ويسر من الأقوال كلها. وقيل تشبيه المضرب أي المحل الذي ضرب فيه الآن بالمورد أي المحل الذي ورد فيه أولا يخرج ما اشتهر ولم يقع فيه هذا التشبيه ككثير من الحكم والأوامر والنواهي الشرعية مثلا. وقيل المثل هو الحجة، وهو صحيح لأنه يحتج به كما سيتبين في فائدته.
وقال المرزوقي: المثل جملة من القول مقتضبة من أصلها أو مرسلها بذاتها، تتسم بالقبول وتشتهر بالتداول، فتنتقل عما وردت فيه إلى كل ما يصح
1 / 20
قصده بها من غير تغير يلحقها في لفظها، وعما يوجبه الظاهر إلى أشباهه من المعاني. ولذلك تضرب وإن جهلت أسبابها التي خرجت عليها، وأستجيز من الحذف ومضارع ضرورات الشعر فيها ما يستجاز في سائر الكلام.
وقال الراغب: المثل عبارة عن قول في شيء يشبهه قولا في شيء آخر بينهما مشابهة ليبين أحدهما الآخر ويصوره، نحو قولهم: " الصيف ضيعت اللبن " فان هذا القول يشبه قولك: " أهملت وقت الإمكان أمرك. " قلت: وتلخيص القول في هذا المقام أن المثل هو قول يرد أولا لسبب خاص، ثم يتعداه إلى أشباهه فيستعمل فيها شائعا ذائعا على وجه تشبيهها بالمورد الأول؛ غير إنّ الاستعمال على وجهين:
أحدهما أن يكون على وجه التشبيه الصريح، سواء صرح بالأداة كقولهم: " كمجير أم عامر. " وقولهم: " كالحادي وليس له بعير. " أو لم يصرح كقولهم: " تركته ترك الصبي ظله. " وهو كثير.
الثاني إنّ لا يكون وجه التشبيه الصريح كقولهم: " الصيف ضيعت اللبن. "؛ وقولهم: " هان علي الأملس ما لاقى الدبر " ونحو ذلك، وهو اكثر من الأول.
أما الوجه الأول فهو تشبيه من التشبيهات، إلى إنّه سار وذاع في بابه فعد مثلا سائرا لمّا عرفت من أن التشبيه كله تمثيل. ومن ثم تجد قدماء اللغويين وأهل العربية يطلقون المثل على المجاز، ويقيدون ما كان سائرا منه بالمثل السائر أو بأنه من أمثال العرب ليفهم ذلك.
وأما الوجه الثاني فهو في مورده لا تشبيه فيه، ولكن يستعمل في مضاربه على وجه تشبيهها بالمورد من غير تصريح " بالتشبيه "، بل على أن يستعار اللفظ المستعمل في المورد الأول للشيء الشبيه بذلك. فقول القائل أولا للمرأة التي طلقها: " الصيف ضيعت اللبن " لا يريد تشبيها أصلا؛ وإنّما أراد انك فرطت في اللبن
1 / 21
وتسببت في ضياعه عند زمن الصيف، إذ كنت تطلبين فراقي. ثم انك اليوم إذا رأيت أحد ٣ فرط في حاجة زمن إمكانها، ثم جعل يطلبها ثم أدبرت، ساغ لك أن لك أن تشبه هيئته بهيئة من ترك اللبن أو محله في وقت، ثم جعل يطلبه في وقت آخر، فتقول له لأجل هذه المشابهة: " الصيف ضيعت اللبن " أي حالتك هذه حالة التي قيل لها: " الصيف ضيعت اللبن " ولأجل هذا المعنى وهذا التقدير، تنقل لفظ المثل كما قيل أولا من غير تغيير، حتى انك في هذا المثل بعينه تكسر التاء في ضيعت وإن كنت تخاطب ذكرا. وهكذا سائر الأمثال، وهذا يسمى عند الأدباء استعارة تمثيلية، ويسمى التمثيل على سبيل الاستعارة، وهي إحدى قسمي الاستعارة التصريحية التي هي أن تشبه شيئًا بشيء، ثم تنقل لفظ المشبه به وتطلق على المشبه لأجله هذا التشبيه إطلاقا كأنه وضع له من غير تصريح بالتشبيه لا بالمشبه به على وجه يشعر بالتشبيه؛ غير أن لفظ المشبه به قد يكون فردا كلفظ الأسد الذي تنقله من السبع الموضوع هو له أوّلًا إلى الرجل الشبيه به في الجرأة. وقد يكون مركبا كلفظ " الصيف ضيعت اللبن " الذي تنقله من هيئة من ضيع اللبن إلى هيئة من ضيع حاجة من الحوائج. وهي الاستعارة في التركيب والتمثيل على سبيل الاستعارة. والأمثال الداخلة في الوجه الثاني كلها من هذا النمط. وقد سمعت تقدير ذلك وعرفت وجه عدم تغييرها، إذ كما أن الفرد إذا نقل على وجه الاستعارة لا سبيل إلى تغييره، كذلك المركب.
فان قيل: فقد ظهر في الوجه الثاني أن للمثل مورد ٣ ومضربا، وإنّ الثاني يشبه بالأول؛ وأما في الوجه الأول فإنما ذلك مجرد تشبيه سائر يشترك فيه الناس كلهم، فأنى يكون به مورد خاص؟ وقي معناه نحو قولهم: " اعز من مخ البعوض " و" اكفر من حمار " ونحو ذلك وهو كثير، فكيف يعقل في هذا كله ما ذكر في تعريف المثل من تشبيه المضرب بالمورد حتى يشمله التعريف؟ قلنا: لا يلزم من كونه تشبيها أن لا يسبق إليه ناطق " ينطق به أوّلًا في شيء من
1 / 22
الأشياء، بل لا مرية من إنّه لابد من أن يقدم إليه أحد " ينطق به بادئ بدء كما تقول: إنّ قولهم كحاطب ليل أوّل من قاله اكثم بن صيفي، وقولهم: امنع من عقاب الجو أوّل من قاله عدي بن نصر اللخمي في الزباء وهكذا غيرهما، سواء علمنا نحن ذلك أم لا، لأن هذا شأن الوجه الثاني أيضًا. قاله الأول في شيء كان ذاك مورده فتشبه به مضاربه، ولا فرق في أن التشبيه في هذا صريح دون القسم الثاني. وها هنا نظر في أمرين: أحدهما أنا قد بينا في الوجه الثاني وهو التمثيل على سبيل الاستعارة أن التشبيه فيه وقع بين هيئتين، وعلى ذلك قررها علماء البيان. ونحن ها هنا إذا قلنا مثلا فيمن أحسن إلى من لا يشكر أو يضر: هو كمجير أم عامر، فظاهر اللفظ أنه تشبيه هذا الشخص بذاك الشخص، لا الصورة بالصورة، وإن كان يصح أن يقال: المراد أن حالة هذا الشخص كحالة المجير على تقدير المضاف؛ لكنا في غنى عن هذا التقدير.
الثاني: إنّ المشبه به هنا مثلا أو بحالته هو مجير أم عامر حقيقة أعني الشخص الذي أجارها فبقرت بطنه وهو عنصر المثل إنّما وقع بعد ذلك بانرئى شخص شبيه به فقال: هو كمجير أم عامر، ثم سار وشاع. فان جعلنا الذي صدر فيه هذا التشبيه أوّل صدوره موردا، فليس هو الذي تشبه سائر المضارب به، بل هذا المورد بعينه وكل ما بعده متشابهات بالمجير الحقيقي. وإنّ جعلنا المورد هو العنصر الأول، فهو لم يقع عليه لفظ المثل حتى ينقل منه إلى شيء آخر ويقال إنّه شبه بما ورد فيه أولا، وإنّما وقع يعده. على أن لقائل أن يقول أيضًا: يصح أن يكون الناس في مثل هذا مثلا سمعوا حديث مجير أم عامر، فجعلوا يشبهون كلهم. فمن الجائز أن يرى ذلك جماعة أو يسمعوه، ثم يشبه كل واحد على حدة من غير أن يكون لذلك سابق مخصص يتبع ويجعل مكان تشبيهه موردا. وهكذا كل ما يشبه هذا المثل. فقد علمت بهذا أن هذا الوجه مخالف للوجه الثاني، وأن في التعاريف السابقة ما فيها إلاّ
1 / 23
على تسامح أو على أنها دائرة على وجه الثاني فقط دون الأول، وهو بعيد إلاّ أنّ يكون ثم إصلاح.
وأعلم إنّ المثل بهذا المعنى الثالث مأخوذ من المعنى الأول وهو الشبه، لأنّه تمثيل، إلاّ أنه سار. وقيل من المثال وهو المقدار كما سبق، لأنّه يجعل مقياسا لغيره، وهو راجع إلى ذلك أيضًا. وقيل إنّما سمي مثلا لأنّه ماثل لخاطر الإنسان أبدا يتأسى به ويعظ ويأمر ويزجر. والماثل: الشخص المنتصب من قولهم: طلل ماثل، أي شاخص، وقد يقال: رسم ماثل أي دارس، وهو من الأضداد. إذا عرفت هذا كله وعرفت معنى استعمال لفظ المثل في المضرب تشبيها بالمورد، فاعلم إنّ ذلك هو معنى ضرب المثل يقال: ضرب الشيء مثلا، وضرب به، وتمثله، وتمثل به، وهو معنى قول بعضهم: ضرب المثل اعتبار الشيء بغيره وتمثيله به، وفسر المفسرون ضرب المثل الواقع في قوله تعالى:) إنَّ الله لا يستحي أ، يضربَ مثلًا (الآية، وقوله:) وتلكَ الأمثالُ نضربها للناس (الآية، بالتبيين والجعل والوصف.
وفي الكشاف: ضرب المثال: اعتماده وصنعه.
وقال الراغب: الضرب: اقاع شيء على شيء. ز بتصور اختلاف الضرب خولف بين تفاسيرها، كضرب الشيء باليد والعصا والسيف ونحوها، وضرب الأرض بالمطر، وضرب الدرهم اعتبارا بضربه بالمطرقة، وقيل له الطبع اعتبارا بتأثير السكة فيه. وبذلك شبه السجية فقيل لها الضريبة والطبية، والضرب في الأرض الذهاب فيها وهو ضربها بالأرجل، وضرب الفحل الناقة تشبيها بالضرب بالمطرقة، كقولك: طرقها تشبيها بالطرق بالمطرقة، وضرب الخيمة لضرب أوتادها بالمطرقة. وتشبيها بضرب الخيمة قال تعالى:) ضربتُ عليهمُ الذلةُ (أي التحفتهم الذلة التحاف الخيمة بمن ربت عليه. ومنه استغير فضربنا على آذانهم في الكهف، وضرب اللبن بعضه ببعض بالخلط، وضرب المثل من ضرب الدراهم وهو ذكر شيء أثره يظهر في غيره. قال الله تعالى:) ضرب الله مثلًا عبدًا مملوكًا (انتهى.
1 / 24
وقيل: ضرب المثل مأخوذ من الضريب أي المثيل له. تقول: هو ضريبه، وهما من ضرب واحد، لأنه جعل للأول مثل. وقيل: من ضرب الطين على الجدار. وقيل: من ضرب الخاتم ونحوه، لان التطبيق واقع بين المثل ومضربه كما في الخاتم على الطابع.
وأما الأمر الثاني وهو الحكمة فللناس في معناها أقوال عدة. واعلم أوّلًا إنّ الحكمة هي فعلة من الحكم أو الأحكام. أما الحكم فير بمعنيين: أحدهما القضاء؛ يقال: حكم الشارع أو القاضي بكذا حكم بضم فسكون؛ الثاني العلم؛ يقال: حكم حكما وحكمة. وأما الأحكام فيكون أيضًا بمعنيين: أحدهما الإتقان؛ يقال: أحكم فلان كذا إحكاما إذا أتقنه؛ الثاني المنع؛ يقال: أحكمت السفيه وحكمته أيضا أي منعته وأخذت على يده. قال جرير:
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم ... أني أخاف عليكم أن أغضبا
وأحكمت الفرس وحكمته جعلت له حكمة. والحكمة بفتحتين ما أحاط بحنكي الفرس وعلى أنفه من اللجام. وفيها العذران. قال زهير:
القائد الخيل منكوبا دوابرها ... قد أحكمت حكمات القد والأبقا
والقد الجلد، والأبق شبه الكتان. ويقال: هو القنب وكانت تصنع منه الحكمات عند العرب، لأن غرضهم الشدة والشجاعة لا الزينة، إذا عرفت هذا فقيل: الحكمة هي العمل، وقيل: الإتقان، وقيل: العدل، والحلم، والنبوءة، والقرآن، والإنجيل. وقيل: كل ما منع من الجهل وزجر عن القبيح. قال عياض في قوله ﷺ: الحكمة يمانية، الحكمة عند العرب كل ما يمنع من الجهل، وبذلك سمي الحاكم لمنعه الظلم ومنه الحديث: إنّ من الشعر
1 / 25
لحكمة، أي ما يمنع من الجهل وينفع وينهى عنه، والحكم والحكمة واحد. وقد قيل ذلك في قوله:) وأتيناه الحكم صبيًا (وقيل: حكمة أي عدلا يدعو إلى الخير والرشد ومحامد الأخلاق. وقيل الحكمة إصابة القول من غير نبوءة. وقيل ذلك في قوله:) اللهم علمه الحكمة. (وقيل: الحكمة العلم بالدين. وقيل: العلم بالقرآن وقيل: الخشية. وقيل: الفهم عن الله في أمره ونهيه. وهذا كله يصح في معنى قوله: الحكمة يمانية وقوله:) علمهُ الحكمةَ (لا سيما مع قوله: الفقه يمان. وقد قيل: الحكمة النبوءة. وقيل هذا في قوله:) يؤتي الحكمة من يشاء (انتهى.
وقال أبن عطية: أختلف الناس في الحكمة في هذا الآية، فقال أبن عباس: المعرفة بالقرآن فقهه وناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه وغريبه. وقال قتادة: الحكمة الفقه في القرآن. وقال مجاهد: الحكمة الإصابة في القول والفعل. وقال أبن زيد، وأوه زيد أبن سالم: الحكمة العقل في الدين. وقال مالك: الحكمة المعرفة بالدين والفقه فيه والإتباع له. وروى عنه أبن القاسم إنّه قال: الحكمة التفكر في أمر الله والاتباع له. وقال أيضًا: الحكمة العقل في الدين والعمل. وقال الربيع: الحكمة الخشية. ومنه قول النبي ﷺ: " رأس كل شيء خشية الله تعالى " وقال إبراهيم: الحكمة الفهم وقال الحسن: هي الورع. انتهى. وقال النووي: الحكمة فيها أقوال كثيرة مضطربة، اقتصر كل من قائليها على مقتضى صفة الحكمة. وقد صفا لنا منها إنّها عبارة العمل المتصف بالإحكام، المشتمل على المعرفة بالله تعالى، المصحوبه بنفاذ البصيرة، وتهذيب النفس، وتحقيق الحق والعمل به، والصد عن إتباع الهوى والباطل، والحكيم من له ذلك. وقد تطلق الحكمة على القرآن. وهو مشتمل على ذلك. وقد يطلق على العلم فقط، وعلى المعرفة فقط، ونحو ذلك. انتهى. وقال بعضهم: أصح ما قيل في الحكمة إنّها وضع الشيء في موضعه، أو الفهم في كتاب الله. انتهى. ورد الغزالي الحكمة إلى العقل. قال في كتاب نهذيب النفس من الأحياء أمهات الأخلاق وأصولها الأربعة: الحكمة، والشجاعة، والعفة، والعدل قال: ونعني بالحكمة حال النفس بها تدرك الصواب من الخطأ في جميع الأفعال الأختيارية. وقال الراغب: الحكمة إصابة الحق بالقول والفعل. فالحكمة من الله تعالى
1 / 26
ومعرفة الأشياء، وإجادها على غاية الإحكام؛ ومن الإنسان معرفة الموجودات، وفعل الخيرات، وهذا هو الذي وصف به لقمان في قوله) ولقد آتينا لقمان الحكمة (، ونبه على جملتها بما وصفه بها. فإذا قيل في الله حكيم، فمعناها إذا وصف به. ومن هذا الوجه قال: أليس الله بأحكم الحاكمين. وإذا وصف به القرآن، فلتضمنه معنى الحكمة، نحو:) تلك آيات الكتاب الحكيم (. وقيل الحكيم المحكم، نحو أحكمت آياته. وكلاهما صحيح، فانه محكم ومفيد للحكم، ففيه المعنيان. انتهى.
والعبارات عنهما كثيرة، ولا حاجة إلى التطويل بها، فان مرجعها شيء واحد؛ وإنّما سبب الاختلاف كثيرة اللوازم والخواص، فعبر عنها بما حضره من خواصها. نعم، ربما يظهر من بعض العبارات السوابق إنّ الاختلاف الحقيقي كالقول بأنها إصابة القول من غير نبوءة، مع القول بأنها النبوءة، ونحوه. لكن جل ما تقدم حائم على الإصابة في الأقوال والأفعال والفهوم. وفعلها حكم بالضم؛ يقال: حكم الرجل كشرف، فهو حكيم قال النمر بن تولب:
وأبغض بغيضكم بغضا رويدا ... إذا أنت حاولت أن تحما
أي أن تكون حكيما. وقال النابغة:
أحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام شراع وارد الثمدِ
يقول: أصب في أمري ولا تخطيء كإصابة الزرقاء في عد الحمام، ولا تقبل قول من يسعى إليك في. وقيل: الحكم بمعنى القضاء. وفعله بالفتح كما مر. والحكم أعم من الحكمة، كما قال الراغب: فكل حكمة حكم، وليس كل حكم حكمة. قلت: وهو صحيح في الحكمة الخيرة. وقد علمت أن الحكمة تكون في الأعمال والأخلاق أيضًا كما سنبينه. فبهذا تكون أخص من وجه لا مطلقا. وتقدمت الإشارة إلى الخلاف في اشتقاق الحكمة أيضًا فقيل: من الإحكام وهو الإتقان؛ وقيل: من المنع كما مر أخذا من حكمة اللجام. وتقدم اللفظان معا وهو فائدة تقديمها لشرح المادة. والكل محتمل، والأقرب المنع.
1 / 27
ولا يبعد أن يكون الإحكام هو الإتقان من المنع أيضًا، كأن المحكم قد منع من الاختلال والفساد، وأبع عن مظان العيب والاعتراض. وتقدم أن الحكم الذي هو القضاء هو أيضًا منع للظلم، فصارت المادة كلها من المنع، والله اعلم. فإذا تتبعنا متفرقات المعاني المقولة في الحكمة على ما مر وجمعناها من ذلك أنها تتعلق بالقلوب والجوارح من الأيدي والألسنة. أما في القلوب، فعلى معنى الإصابة في اعتقاداتها وتصورها للأشياء وفي أخلاقها من الحلم، والعفو، والعفة، والعدل، ونحو ذلك. وأما في الأيدي فعلى معنى الإصابة في أفعالها وإتقان صنائعها؛ وكذا غيرها من الأعضاء بالجري على السنن في أفعالها، وكذا القصود. وأما في الألسنة فعلى معنى الإصابة في التعبير عن المعاني بإصابة المحز وتطبيق المفصل. غير أنا نقول: لابد في هذا كله عند إطلاق لفظ الحكمة ولفظ الحكيم عند أهل كل عرف من اعتبار دقة في ذلك، ولطافة، ونوع غرابة، وعظم فائدة، باعتبار أهل ذلك العرف، حتى يكون المعنى بالإصابة المذكورة إصابة خاصة لا مطلق الإصابة، للقطع بأنا لا نسمي اليوم من قال الله واحد ومحمّد رسوله ﷺ حكيما وإن كان في غاية الإصابة؛ ولا من بنى بناء معتادا، أو صاغ صياغة معتادة. وقد نبه على هذا المعنى بعضهم في قوله ﷺ الكلمة الحكمة ضالة المؤمن. فقال: المراد بالكلمة الجملة المفيدة، والحكمة التي أحكمت مبانيها بالعلم والعقل، وتدل على معنى فيه دقة، انتهى. ولأجل هذا يقال: أنزلت الحكمة على ثلاثة أعضاء في الجسد: قلوب اليونان، وألسنة العرب، وأيدي أهل الصين. وما ذلك إلاّ لاختصاص اليونان بميزة التبحر في علم الأشياء ومعرفة القوانين وإتقان البراهين، واختصاص أهل الصين بميزة عمل الصنائع العجيبة وإتقان الأعمال الغريبة؛ واختصاص العرب بمزية إبانة المعاني العجيبة، والأمثال والمواعظ المفيدة، في أشعارها وخطبها. ومن ثم قال النبي ﷺ إنّ من الشعر لحكمة. ودخل العجاج على عبد الملك بن مروان فقال: يا عجاج، بلغني أنك لا تقدر على الهجاء. فقال: يا أمير المؤمنين، من قدر على تشييد الأبنية أمكنه خراب الأخبية. قال: فما يمنعك من ذلك؟ قال: إنّ لنا عزا يمنعنا من أن نظلم، وإنّ لنا حاما يمنعنا من أن نظلم، فعلام الهجاء؟ فقال عبد الملك:
1 / 28
لكلماتك أشعر من الشعر؛ فأنى لك عز يمنعك من أن تنظم؟ قال: الأدب البارع، والفهم الناصع. قال: فما الحلم الذي يمنعك من أن يظلم؟ قال: الأدب المستطرف، والطبع التالد. قال: يا عجاج، لقد أصبحت حكيما. قال: وما يمنعني وأنا نجي أمير المؤمنين؟ انتهى.
وستسمع أن شاء الله من كلام حكماء العرب ما تقضي منه الأرب. والكلام المذكور هو أيضًا مصداق ما مر من تعلق الحكمة بالقلوب والألسن وساير الجوارح، والله الموفق. وقد اتضح من هذا الفرق بين المثل والحكمة، وذلك فيما يحضر فكري الآن من ثلاثة أمور: أحدها أن الحكمة عامة في الأقوال والأفعال، والمثل خاص بالأقوال. ثانيها أن المثل وقع فيه التشبيه كما مر، دون الحكمة. ثالثها أن المقصود من المثل الاحتجاج، ومن الحكمة التنبيه والإعلام والوعظ. ويرد على الأول إنّه فرق بحسب أعمية المورد، ولا مساس له بالحقيقة. فلم يفد إلاّ أن الحكمة الفعلية تباين المثل ولا نزاع فيه، وليس بمفيد في الأقوال إذا تنوزع فيها أن شيئا منها حكمة أو مثل. على أنه قد يكون التمثيل بالفعل أيضًا كتصوير شكل المثلث لمن لا يعرفه. ومن ثم يعد من جملة الرسوم المعروفات الأشياء التعريف بالمثال. ويرد على الثاني أنه إن عنى تشبيه المضرب بالمورد حقيقة، فقد مر أن نوعا كبيرا من الأمثال لا يجري فيه ذلك على ما ينبغي؛ وإن عني مطلق التشبيه، فهو واقع في الحكم كثيرا، كقولهم: من فسدت بطانته كان كمن غص بالماء. على أنه قد عد من الأمثال ملا تشبيه فيه أصلا بوجه كقولهم: من قرع الباب ولجَّ ولج. وقولهم: " الرباح مع السماح " ونحو ذلك. ويرد على الثالث أن الاحتجاج صحيح في الحكم أيضًا، بل جلها قضايا كليات وقوانين تورد بحيث يصلح في كل أمر تكون حجة فيه محذوفة إحدى مقدمتيها. فإذا قلنا: من فسدت بطانته كان كمن غص بالماء أمكن إنّ نقول: إن فلان فسدت بطانته، وهو المقدمة الباقية، فيعلم أن فلانا هو كمن غص بالماء. وهذا الاستدلال هو الكاشف عن الصواب والخطأ في الأنظار والعلوم، وهو معنى الحكمة بالحقيقة؛ وإنما قلنا جل الحكم قضايا، لأن ذلك هو
1 / 29
الصريح، وقد يكون منها غير ذلك، كالأوامر والنواهي؛ لكنها تتخذ قضايا بحسب الزوم. فالحكم كلها تصلح للاحتجاج، وهي بصدده كالأمثال؛ على أن الأمثال ليست كلها بصدد الاحتجاج، بل هي بالأصالة للتصوير؛ وإنّما تصلح للاحتجاج عندما يراد بها التصديق من مدح، أو ذم، أو تزيين، أو إظهار رغبة في شيء أو عدم مبالاة، أو نحو ذلك على ما ستقف عليه قريبا إن شاء الله.
ويجاب عنها، أما أوّلا فبأن القصد الفرق بين المثل والحكمة مطلقا أعم من الموردي والحقيقي، وهذا كاف في الأول وليس مقتصر عليه حتى يعد قاصرا. وأما ثانيا فبأنها نعني تشبيها خاصا لا مطلقا، أما في الوجه الثاني من الأمثال فهو تشبيه المضرب بالمورد كما مر. وأما في الأول فلا يخفى إن لم يكن فيها ذلك على وجهه أن فيها تشبيها بعنصر خاص معين هو سبب جريان ذلك الكلام ووقوع ذلك التشبيه على ما تقدم توضيحه، وليس ذلك بمنظور في الحكم. وأما ثالثا فبأن الاحتجاج في المثل واقع بالفعل حيثما أطلق على سبيل الخصوص، والحكمة إنّما تراد عامة على وجه الصلاح للاحتجاج بها في الخصوصيات لا على الفعل، فالاحتجاج خلاف الاحتجاج. نعم، يبقى من الأمثال ما لم يقع فيه تشبيه لا صريحا ولا مقدرا. والحق أن من الأمثال ما لا يشتبه بالحكمة في ورد ولا صدر، نحو: الصيف ضيعت اللبن، ومن الحكم ما لا يشتبه بالمثل ككثير من الحكم الإنشائية، ويبقى وراء ذلك وسط يتجول فيه الفريقان كالمثل السابق. فان كثيرا منها قد يعد مثلا تارة، وحكمة تارة، ولا فرق يظهر إلاّ بالحيثية، وهي إنها إن سيقت ملاحظا فيها التشبيه فمثل؛ وإن سيقت ملاحظا فيه التنبيه أو الوعظ أو إثبات قانون أو فائدة ينتفع بها الناس في معاشهم أو معادهم فحكمة. وهذا معروف بالاستقراء، ز شاهده الذوق بعد معرفة أن مرجع الحكمة الإصابة، ومرجع المثل التشبيه كما مر، حتى إن من يضرب للناس أمثالا غريبة ينتفعون بها يصح أن يقال إنه حكيم لأنه مصيب في ذلك المثل الذي ضربه، وهكذا يقال في التمثيل الفعلي السابق. فإن من صور صورة المسدس مثلا عد منه ذلك تمثيلا من حيث التشبيه، وحكمه من الإصابة والإتقان، ولا تنافي بين الغرضين. ومن وسع نطاق هذا الاعتبار أمكنه في كل مثل وحكمة هذا المقدار، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
1 / 30
الفصل الثاني
فائدة المثل والحكمة وفضلهما
أما الأول وهو المثل، فلا يخفى على ذي ميز ولا يشتبه على ذي لب ما جعل الله تعالى فيه من الحكمة، وأودع فيه من الفائدة، وناط به من الحاجة؛ فأن ضرب المثل يوضح المنبهم، ويفتح المغلق، وبه يصور المعنى في الذهن ويكشف المعمي عند اللبس، وبه يقع الأمر في النفس حسن موقع، وتقبله فضل قبول، وتطمئن به اطمئنانا، وبه يقع إقناع الخصم وقطع تشوف المعترض. وهذا كله معروف بالضرورة، شائع في الخاص والعام، ومتداول في العلوم كلها منقولها ومعقولها، وفي المحاورات والمخاطبات، حتى شاع من كلام عامة المتعلمين والمعلمين قولهم: " بأمثالها تعرف أو تتبين الأشياء " وسر ذلك إنّ المثل يصور المعول بصورة المحسوس، وقد يصور المعدوم بصورة الموجود والغائب بصورة المشاهد الحاضر، فيستعين العقل على إدراك ذلك بالحواس، فيتقوى الإدراك ويتضح المدرك. وتحقيق ذلك أن العقول، وأن كانت تدرك المعلومات، لكنها غير مستقلة بنفسها غلبا في إدراك جميعها ولا جلها استقلالا صرفا لا سيما القاصر. وذلك أن العقول إنما تستقل بإدراك أوائل الضروريات التي توجد في غرائزها ولا تدري لها سببًا غير اختراع الفاعل المختار. وما سوى ذلك فالعقول فيها إما مفتقرة إلى الحواس، كالمعلومات التجريبية التي موادها محسوسة بإحدى الحواس؛ وإما مستعينة بها ضربًا من الاستعانة على طريق التمثيل والتقرير ونحوه. وذلك في غير ذلك. وقد ذهب قوم من الأوائل إلى حصر العلوم في المحسوسات وعكس آخرون، ونحن لا نقول شيئًا من ذلك، وليس هذا محل تقرير المقاتلين ولا ردهما، ولكنا نشير إلى ما نحن بصدده نوع إشارة فنقول: إنّ الإدراك، سواء قلنا إنّه يكن بالعقل وبالحواس الخمس معا، أو قلنا إنّه بالعقل فقط
1 / 31