فلما رأى المجتمعون زديج ارتفع بينهم ضجيج مختلط، وكان المجتمعون دهشين سعداء لمحضره، ولكن لم يكن يؤذن إلا للفرسان الذين شاركوا في المبارزة بشهود الاجتماع، قال زديج: «لقد بارزت كما بارز غيري، ولكن رجلا غيري يحمل سلاحي في هذا المكان، وإلى أن يتاح لي الشرف بإثبات ذلك أرجو أن يؤذن لي بالمشاركة في تفسير الألغاز.» وأخذت الأصوات، فلم يتردد أحد في قبوله لأن أمانته وصدقه وشرفه كانت لا تزال مستقرة في القلوب.
وقد بدأ الكاهن الأعظم فألقى هذا السؤال: «ما شيء هو أطول الأشياء في العالم وأقصرها، وأسرع الأشياء وأبطؤها، وأشد الأشياء استعدادا للانقسام وأشدها امتدادا، وأشد الأشياء تعرضا للإهمال وأشدها تعرضا للحزن عليه، بغيره لا سبيل إلى أن يصنع شيء، وهو يزدرد كل ما هو صغير، ويحيي كل ما هو كبير؟»
وكان على إيتوباد أن يتكلم، فأجاب بأن رجلا مثله لا علم له بالألغاز وحسبه أنه انتصر برمحه، قال بعض المتنافسين: إن جواب اللغز إنما هو الحظ، وقال بعضهم هو الأرض، وقال بعضهم هو النور، وقال زديج: «إنه الزمان، ليس شيء أطول منه لأنه مقياس الأبد، وليس شيء أقصر منه لأنه يقصر عن آمالنا، وليس شيء أبطأ منه للمنتظر، وليس شيئا أسرع منه للمبتهج، وهو يمتد في السعة إلى ما لا نهاية، وينقسم في الصغر إلى ما لا نهاية، والناس جميعا يهملونه، والناس جميعا يأسفون على ضياعه، لا يصنع شيء بدونه، وهو ينسى ما لا يستحق الخلود، ويخلد جلائل الأعمال.» فأجمع القوم على أن زديج قد أصاب.
ثم سئل بعد ذلك: «ما شيء يقبل ولا يشكر معطيه، وينعم الناس به دون أن يعرفوا كيف ينعمون به، ويعطونه غيرهم دون أن يعرفوا أين هم منه، ويفقده الناس على غير وعي منهم؟»
فأدلى كل بجوابه، وقال زديج: إنه الحياة، وفسر سائر الألغاز على هذا النحو من اليسر، وكان إيتوباد يقول: ليس شيء أيسر من هذه الألغاز، ولو قد أراد لأجاب عليها في غير مشقة، وقد ألقيت أسئلة حول العدل والخير الأعظم وفن الحكم، فكانت أجوبة زديج أقوم الأجوبة، وكان الناس يقولون من حوله: إن مما يحزن حقا أن يكون صاحب هذا العقل الممتاز فارسا غير ممتاز.
قال زديج: «أيها السادة العظام! لقد شرفت بالانتصار في الميدان، وإنما اللأمة البيضاء هي لأمتي، وقد أخذها السيد إيتوباد أثناء نومي، وقد رأى في أكبر الظن أنها أليق من لأمته الخضراء، وإني مستعد أن أثبت أمامكم بثوبي هذا وسيفي، على رغم كل ما يحمل هو من هذه اللأمة البيضاء التي اختلسها مني؛ أني أنا الذي انتصر على الأمير أوتام.»
وقد قبل إيتوباد هذا التحدي واثقا بنفسه أعظم الثقة، ولم يكن يشك في أنه وقد حمل الخوذة والدرع والمغفر سينتصر في غير عناء على خصم ليس عليه إلا ثوب وقلنسوة، وقد استل زديج سيفه وحيا الملكة التي كانت تنظر إليه يتنازعها الفرح والخوف، واستل إيتوباد سيفه ولم يحي أحدا، ثم تقدم إلى زديج كما يتقدم رجل لا يهاب شيئا، وكان يوشك أن يشدخ رأسه، وقد اتقى زديج هذه الضربة معارضا بقوة سيفه ضعف خصمه، بحيث انكسر سيف إيتوباد؛ هنالك هجم زديج على خصمه فأخذ بتلابيبه وصرعه على الأرض، ثم أنفذ ذبابة سيفه من ثنايا الدرع قائلا له: «دعني أجردك من سلاحك وإلا قتلتك.» وقد دهش إيتوباد لسوء الحظ الذي ألم برجل مثله، وخلى بين زديج وبين سلاحه، وقد بدأ فنزع خوذته، ثم درعه الفخمة، ثم مغفره الجميل ، ثم لبس هذا كله وجرى في لأمته هذه حتى جثا عند قدمي أستارتيه، وأثبت كادور في سهولة أن هذه اللأمة هي لأمة زديج، فنودي به ملكا عن رضا من الناس جميعا، وخاصة من أستارتيه التي نعمت بعد كثير من الشقاء بأن ترى عاشقها خليقا في رأي العالم كله أن يصبح لها زوجا، وعاد إيتوباد إلى قصره حيث يدعوه خدمه مولاي، وأصبح زديج ملكا وأصبح سعيدا، وكان يتمثل في نفسه ما قال له الملك جسراد، بل تذكر حبة الرمل التي أصبحت ماسة، وقد شكرت الملكة وشكر هو للآلهة هذا الفضل، وترك زديج الجامحة الجميلة ميسوف تطوف في أقطار الأرض، وأرسل يدعو قاطع الطريق أربوجاد فرفعه إلى مرتبة حسنة في جيشه، ووعده بأن يرفعه إلى أرقى المراتب إن سار سيرة الجندي الشريف، وأن يشنقه إن عاد إلى قطع الطريق.
ودعي سيتوك مع ألمونا الحسناء من أعماق بلاد العرب، فجعل على تجارة بابل، وأنزل كادور منزلة تلائم بلاءه ووفاءه، فأصبح صديق الملك، وأصبح زديج هو الملك الوحيد الذي استطاع بين ملوك الأرض أن يكون له صديق مخلص، ولم ينس زديج القزم الأخرس، ومنح الصياد دارا جميلة، وقضى على أوركان أن يؤدي إليه مقدارا ضخما من المال، وأن يرد إليه امرأته، ولكن الصياد وقد صار حكيما أبى أن يأخذ إلا المال.
ولم تتعز سمير الحسناء من خطئها حين ظنت أن زديج سيصبح أعور، ولم تكف أزورا عن البكاء؛ لأنها همت ذات يوم أن تجدع أنفه، وقد خفف زديج ألمهما بما أهدى إليهما من الهدايا، ومات الحسود غيظا وخزيا، واستمتعت الدولة بالسلم والمجد والرخاء، وكان هذا العصر أجمل عصر عرفته الأرض، فقد حكمها فيه الحب والعدل، وكان الناس يحمدون زديج، وكان زديج يثني على الآلهة.
وهنا تنتهي المخطوطة التي تقص تاريخ زديج، والناس يعلمون أنه تعرض لمغامرات كثيرة أخرى قد سجلت تسجيلا دقيقا، فنرجو أن ينشرها المستشرقون إن وصلت إليهم.
ناپیژندل شوی مخ