كان التطبيق العملي لليوتوبيا في وقت من الأوقات مقصورا - بوجه عام - على تلك المجتمعات، ولكن نظرا لاستخدام كلمة «يوتوبيا» الآن باعتبارها وصفا لكثير من أنواع النشاط الاجتماعي والسياسي التي تسعى لإقامة مجتمع أفضل، وفي بعض الحالات تحولا شخصيا؛ فهي فئة أوسع مما كانت عليه في السابق. وكل عمليات التطبيق العملي لليوتوبيا تتناول التحول الفعلي لا الخيالي للمجريات اليومية؛ فالمنضمون إلى المجتمعات المقصودة يختارون محاولة تغيير حياتهم، كما يفعل المشاركون في أشكال أخرى من التطبيق العملي لليوتوبيا، لكن بطرق مختلفة.
تتضمن النظرية الاجتماعية اليوتوبية: اليوتوبيا باعتبارها طريقة في التحليل؛ والعلاقة بين اليوتوبيا والأيديولوجية، التي كان المنظر الاجتماعي كارل مانهايم (1893-1947) أول من أشار إليها في عام 1929، والتي استخدمها آخرون بطرق مختلفة منذ ذاك الحين؛ والطرق التي استخدم بها مفكرون مثل الفيلسوف الماركسي الألماني إرنست بلوخ (1885-1977)، وعالم الاجتماع الهولندي فريدريك إل بولاك (1907-1985) اليوتوبية لتفسير التغير الاجتماعي؛ ودور اليوتوبية في الدين، لا سيما في علم اللاهوت المسيحي؛ حيث رأى البعض أنها نوع من الهرطقة، في حين رأى آخرون أنها مفهوم أساسي؛ ودور اليوتوبيا في نظريتي الكولونيالية وما بعد الكولونيالية؛ والمناظرات بين المؤيدين للعولمة والمناهضين لها. وسنتناول هذه المداخل كلها بين دفتي هذا الكتاب.
اليوتوبية والمجتمعات المقصودة ظاهرتان معقدتان لهما تاريخان طويلان حدثتا في أطر عديدة ومختلفة؛ نتيجة لذلك، فهما تختلفان اختلافا كبيرا من زمان لآخر، ومن مكان لآخر؛ لذا فإن التعريف على مستوى من التعميم يجمع كل شيء قد يكون نقطة بداية مفيدة، لكنه لن يخبرنا إلا بالقليل عن الظواهر الفعلية وهي تحدث؛ ومن ثم ينبغي علينا تحديد مواصفات مختلف الفئات الفرعية على نحو مناسب، بحيث نصل لأوجه التشابه، ونتعرف على أوجه الاختلاف فيما بينها. وعلى وجه الخصوص، يجب أن يكون أي نقاش حول المجتمعات المقصودة مدركا أن لكل مجتمع دورة حياته الخاصة، التي تبدأ بالرؤى والتخطيط المسبق إلى الميلاد والنمو والنضج، وغالبا الموت؛ ويكون الموت ممكنا في أي مرحلة من مراحل حياة المجتمع.
ومن الممكن أن توجد اختلافات جوهرية حول العناصر المشكلة للمكان الطيب. والحالة الكلاسيكية التي تعود إلى القرن العشرين هي رواية «والدن تو» (1948)، لصاحبها عالم النفس بي إف سكينر (1904-1990)؛ وهي رواية تصف مجتمعا صغيرا - أنشأه عالم نفس سلوكي - رآه كثيرون على نحو واضح باعتباره مكانا طيبا، بل وحتى دليلا للمجتمع المقصود المثالي. أقيمت بعض المجتمعات على هذا النموذج، ولا يزال بعضها قائما، في حين رأى آخرون الرواية باعتبارها صورة لمجتمع شمولي. تختلف النظرة للمجتمعات من قبل من يلاحظونها من الخارج مقارنة بمن يعيشون فيها، وتتغير تلك النظرات مع تغير المجتمعات والناس. على سبيل المثال، كثيرا ما ينظر إلى المجتمعات المقصودة على أنها أماكن رائعة إن كنت طفلا تعيش فيها، وأماكن بغيضة إن كنت مراهقا.
للأدب اليوتوبي ستة أهداف على الأقل، رغم أنه لا يمكن الفصل بينها بالضرورة. يمكن أن تكون اليوتوبيا مجرد فانتازيا، أو يمكن أن تكون وصفا لمجتمع مرغوب أو غير مرغوب فيه، أو استقراء أو تحذيرا أو بديلا للواقع، أو نموذجا يجب أن يتم الاقتداء به. والمجتمع المقصود المقدم على هيئة يوتوبيا يضيف غرضا سابعا؛ ألا وهو إثبات أنه من الممكن عيش حياة أفضل في الوقت الحاضر. ينظر المؤيد لليوتوبية إلى البشرية ومستقبلها نظرة أمل أو نظرة خوف. إن كانت النظرة نظرة أمل، فعادة ما تكون النتيجة يوتوبيا. أما إن كانت نظرة خوف، فتكون النتيجة في العادة ديستوبيا. لكن اليوتوبية هي في الأساس فلسفة أمل، وتتسم بتحويل أمل عام إلى وصف لمجتمع غير موجود. وبالطبع، كثيرا ما لا يزيد الأمل على كونه تلبية لرغبة ساذجة نوعا ما، كما في بعض الحكايات الخرافية (وإن كانت معظم الحكايات الخرافية تتحول إلى ديستوبيات إن جرى تحليلها بدقة). على الجانب الآخر، فإن الأمل ضروري لأي محاولة لتغيير المجتمع إلى الأفضل. لكن هذا يطرح احتمال أن يحاول أحدهم فرض فكرته عن المستقبل المرغوب على الآخرين الذين يرفضونها. ودائما ما يواجه اليوتوبيون هذه المعضلة عندما يحاولون نقل حلمهم إلى أرض الواقع؛ هل حلمهم متوافق مع فكرة فرضه على الآخرين؟ وهل يمكن أن تتحقق الحرية من خلال اللاحرية؟ أو المساواة من خلال اللامساواة؟
ثمة أسباب وجيهة لكل من التقييمات السلبية والإيجابية لليوتوبية منعكسة في الاقتباسات المعروضة في صدر هذه المقدمة، وسيجري تناول تلك الأسباب عبر صفحات الكتاب. كانت التقييمات السلبية قوية في القرن العشرين نتيجة لمحاولة فرض نسخ بعينها من الحياة الطيبة، لا سيما الشيوعية في الاتحاد السوفييتي والصين وفي أماكن أخرى، وكذلك الاشتراكية القومية في ألمانيا ونسخة طالبان من حركة الإسلام السياسي في أفغانستان. كانت نظرة آخرين إلى اليوتوبية إيجابية بوصفها الوسيلة الرئيسية لمواجهة مثل هذه المحاولات.
على الرغم من أنني أهدف إلى تقديم عرض شامل ومتوازن في هذا الكتاب، فإن لي طرحا معينا أود تناوله؛ في المجمل العام، طرحي هو أن اليوتوبية ضرورية لتحسين وضع البشر. وبهذا المضمون، فالمناهضون لليوتوبية مخطئون ويمكن أن يشكلوا خطرا. لكني أدفع أيضا بأنه إن استخدمت اليوتوبية بشكل خاطئ - وقد حدث هذا بالفعل - فهي خطيرة. وبهذا المضمون، فالمؤيدون لليوتوبية مخطئون ويمكن أن يشكلوا أيضا خطرا؛ لذا تستكشف الخاتمة الطبيعة المتناقضة لليوتوبية، وتسعى إلى تداركها.
الفصل الأول
الأماكن الطيبة والفاسدة
(1) تقليدا اليوتوبيا
ناپیژندل شوی مخ